العصمة والابتلاء فروق وفواصل
ومن أعظم فوائد ابتلاء الأنبياء: أن يجد الداعية في ابتلاء الأنبياء وشدته سلوانًا له عمَّا يناله في سبيل دعوته، ولولا استحضار هول البلاء المحيط بنبينا ﷺ؛ ما نهضت همّة الداعية لتحمُّل البلاء.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين صلى الله عليه وسلم .
بمشاعره الجياشة، ونبرته المختنقة بالعبرة؛ تَأَثُّرًا بما فعله اللعين ابنُ أبي معيط؛ عندما «كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُه جُلُوسٌ.
إِذْ قَالُوا: أَلاَ تَنْظُرُونَ لِهَذَا الْمُرَائِي! أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاَهَا، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ!
فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ!
فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ -عَلَيْهَا السَّلاَمُ-، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ...»[1].
فسألني ابني متعجبًا: لقد وعدَ الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم بالعصمة؛ إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، ولقد رأينا أثر هذه العصمة الإلهية بمواقفَ كثيرةٍ؛ منها:
ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه؛ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُ محمدًا لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ.
فَمَا فَجَأَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا»[2].
وفي مرة أخرى: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسَنَّ لمحمدٍ غَدًا بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ، فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ، أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ يَغْدُو.
فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ نَحْوَهُ بالْحَجَرِ، حَتَّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ.
فَقَالُوا: مَا لَكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟
قَالَ: قُمْتُ إلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْتُ لَكُمْ الْبَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِن الْإِبِلِ، لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتهِ، وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ»[3].
فلمَ لَمْ نرَ العصمة الإلهية مع ابن أبي معيط؛ كما رأيناها مع أبي جهل -لعنهما الله-؟
فقلت: غفر الله لك! سبحانك هذا بهتان عظيم! والذي لا عاصِم لنا غيره؛ لو رُفعت العصمة عن النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين لهلك، وهلك معه الإسلام والمسلمون!
وما كان استشكالك إلَّا لِلَبسٍ لديك بين العصمة والابتلاء، وبينهما أبعد ما بين الخافقين.
إذ الابتلاء: علّة الخلق؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: ٢]، وتفصيله يطول.
وخلاصته: أنَّ الله عز وجل يمتحنُ العباد بالنعم والنقم، والأوامر والنواهي، والغيب والمعجزات، ويختبرهم ليرى شكرهم للنعم، وصبرهم على النقم، وقيامهم بالأمر، واجتنابهم للنهي، وإيمانهم بالغيب، والمعجزات، وهو عامّ للمسلم والكافر على السواء!
وجدير بالذكر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شأنه في ذلك شأن سائر الخلق؛ إذ هو مبتلًى، وممتحنٌ، ومُختَبرٌ مثلهم!
أمَّا العصمة الإلهية: فهي حفظ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم مما يَعُوقه عن تبليغ رسالته.
ولا تعني من قريب أو بعيد استثناءً إلهيًّا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من قاعدة الابتلاء بكل أنواعه، وجميع صُوره!
فقد ابتلي صلى الله عليه وسلم بإيذاء ابن أبي معيط، ولكنَّ الله عز وجل أنجاه من محاولات اغتيال أبي جهل له!
فما من بلاء، أو محنة، أو اختبار، أو امتحان امتُحِن به بشر؛ إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القدح المعلى!
ومع كل هذه الابتلاءات كانت العصمة الإلهية تمنع النبي صلى الله عليه وسلم من المَحْق أمام هذه الفتن التي تَمحَقُ الجبال محقًا! وعلى سبيل المثال لا الحصر تأمل ما يلي:
المثال الأول: «الهجرة» بين العصمة والابتلاء:
وذلك أن الله عز وجل أخرج نبيه صلى الله عليه وسلم من بين أظهُر المشركين؛ إذ كانوا ينتظرونه أمام بيته، فلم يُبصروه بينما هو يسير أمام عيونهم[4]!
وفي مرحلة أخرى من الهجرة؛ جاء عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
فَقَالَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا»[5].
وفي مرحلة ثالثة من الهجرة؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ.
فَقُلْتُ: أُتِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ!
فَقَالَ: «لاَ تَحْزَنْ! إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ إِلَى بَطْنِهَا فِي جَلَدٍ مِنَ الأَرْضِ.
فَقَالَ: إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ، فَادْعُوَا لِي، فَاللَّهُ لَكُمَا أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَجَا»[6].
بالله يا ذوي الألباب! ألم تتَّضح العصمة الإلهية في المواقف الثلاثة؛ إذ عجز الكفار في كل المواقف عن صدّ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنعه من الهجرة!
تالله لقد اتَّضحت! ويا لها من عصمة إلهية كافية لإيمان مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! ولكن على قلوب أقفالها؛ عياذًا بالله.
ومع ثبوت العصمة الإلهية؛ فقد كان البلاء مُصاحِبًا للنبي صلى الله عليه وسلم في كل منزل! إذ استغرقت الرحلة ثلاثة عشر يومًا؛ بينما يقطعها المسافر المبطئ في ثلاثة أيام!
ومما ابتُلي به النبي صلى الله عليه وسلم موت ابنته زينب، وسبطه منها عند هجرتها لأبيها صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنَّها لما خرجت زينب -رضي الله عنها- مُهاجِرَة لأبيها، وكانت حاملًا «رَوَّعَهَا هَبَّارٌ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا رِيعَتْ طَرَحَتْ جنينها»[7]، ثم استمر بها النزيف زمنًا؛ حتى قيل: إنها ماتت بسببه، والله أعلم.
وفوق ذلك كله فقد كانت الهجرة النبوية مليئة بالآلام والمِحَن والتدبير الدقيق، والتخطيط العميق!
ولو شاء الله عز وجل لأرسل البراق فحمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهله معه، وما حمَّله كل هذه الأهوال العظيمة التي تشيب لها الولدان شيبًا! والتي بلغت فراق الابنة دهرًا طويلاً، ثم طرحها، ونزيفها، وموت حفيده في أثناء هجرتها، ثم موتها هي بعد ذلك!
ومع هذا فقد تجلت في الهجرة أسطورية العبقرية النبوية في تنفيذ أخطر عملية عسكرية خلف خطوط العدو، بدقة عالية، وتخطيط دقيق، وتدبير مُحكَم، ونظر عميق، وتوقيت فذّ!
ومع كل هذا التخطيط البشري الفائق! علم الله عز وجل، ثم كل ذي مسكة من عقل أن العصمة الإلهية كانت الضامن الأوحد لسلامة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحقيق نجاته من الكفار!
ولذلك فقد أفردتُ الهجرة النبوية بدراسة تأصيلية تُوضِّح وجوب الجمع بين حقيقة اليقين بالله عز وجل والتوكل عليه، مع استنفاد الوُسْع، وبذل قصارى الجهد في الأخذ بالأسباب في رسالة موسومة بـ«الهجرة النبوية بين التأييد الإلهي والتخطيط البشري».
والخلاصة: أن الله عز وجل عصم النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار عصمةً مكَّنته من تحقيق الهدف، وهو بلوغ المدينة سالمًا!
ومع ذلك: لم تكن العصمة الإلهية مانعة للبلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ ابتُليَ في نفسه، وصديقه، وابنته، وسبطه ابتلاء تعلو به درجاته، وترتفع به منزلته، ويُحقق لنا به القدوة في الصبر على البلاء الجليل!
المثال الثاني: «غزوة أحد»[8] بين العصمة والابتلاء:
إذ وقع فيها للمسلمين عامة، وللنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ما لم يقع في غزوة أخرى من الابتلاء.
ومن هذا البلاء قتل سبعين من أفاضل المسلمين، وإليك صورة مختصرة لما ابتلي به صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: «إِذْ رَجَعَ وَهُوَ مَجْرُوحٌ فِي وَجْهِهِ، وَمَشْجُوجٌ فِي جَبْهَتِهِ، وَربَاعِيَّتُهُ قَدْ شَظِيَتْ، وَشَفَتُهُ السُّفْلَى قَدْ كُلِمَتْ فِي بَاطِنِهَا، وَمَنْكِبَهُ الْأَيْمَنُ مُتَوَهِّنٌ مِنْ ضَرْبَةِ ابْنِ قَمِيئَةَ، وَرُكْبَتَاهُ مَجْحُوشَتَانِ»[9]!
ولكن مع كل هذا البلاء العظيم، فقد تجلت العصمة الإلهية في مواقف عديدة بغزوة أحد، نأخذ طرفًا منها:
المشهد الأول من العصمة الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: عجز المشركين عن صعود جبل أُحد. وذلك أن أبا سفيان وقف تحت أُحد هاتفًا: «يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، ثُمَّ قال: اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَل، إِنَّ لَنَا العُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ».
فأجابه عمر رضي الله عنه: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ»[10].
وتأمل: لماذا عجز أبو سفيان عن اقتحام جبل أحد؛ ليهتبل الفرصة الثمينة ويقتل رءوس الإسلام؛ نبينا صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين معه! يا لها من فرصة لا تُعوّض!
إذ ظفر بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا النفر القليل المثخنين بالجراح، وهم لا يملكون سهمًا واحدًا! وهو يملك ثلاثة آلاف مقاتل تقريبًا، منهم مائتا فارس أشداء!
بينما استطاع الفرسان وحدهم أن يقتحموا الجبل نفسه منذ قليل، ويقتلوا عبد الله بن جبير، وما تبقَّى من سريته رضي الله عنهم وقد كانوا مسلحين بالنبال والسهام!
إنَّ أبا سفيان نفسه لا يعلم إجابة هذا السؤال، لا هو، ولا أحد ممن كانوا معه ممن تركوا أرض المعركة فارّين على غير عادة المنتصر، والذي كان يقيم في أرض المعركة ثلاثة أيام يشرب الخمر ويسمع القيان محتفلًا بنصره!
فمع قوة الكسرة الشديدة التي كُسِرَهَا المسلمون، لكن العصمة الإلهية منعت المشركين من اقتحام الجبل، أو قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أحد من خلفائه الأربعة!
فتأمل كيف عجز ثلاثة آلاف مقاتل تقريبًا، بينهم مائتا فارس، عن قتل بضعة نفر مثخنين بالجراح!
وتأمل كيف يكون هذا لولا العصمة الإلهية! التي لا تعارض الابتلاء الرباني الذي ما خُلِقَ الإنسان إلَّا له!
المشهد الثاني من العصمة الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: «حمراء الأسد». وذلك أنَّ المشركين تَلاومُوا في الطريق! إذ سرعة فرارهم من أرض المعركة لا تَعكس انتصارهم؛ فقالوا: «لَا مُحَمّدًا أَصَبْتُمْ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، فَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ!»[11].
فاتفقوا على الرجوع للمدينة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وسبي المسلمات بمن فيهن أمهاتنا الحرائر -رضي الله عنهن جميعًا-.
وبينما هم في طريقهم إذ قابلوا معبدًا الخزاعي، فسألوه عن المسلمين؛ فأجاب: «لقد تَرَكْت مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ خَلْفِي يَتَحَرّقُونَ عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ النّيرَانِ، وَقَدْ أَجْمَعَ مَعَهُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بِالْأَمْسِ مِن الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَتَعَاهَدُوا أَلّا يَرْجِعُوا حَتّى يَلْحَقُوكُمْ فَيَثْأَرُوا مِنْكُمْ، وغضبوا لقومهم غَضَبًا شَدِيدًا وَلِمَنْ أَصَبْتُمْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ.
قَالُوا: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ وَاللهِ مَا نَرَى أَنْ نَرْتَحِلَ حَتّى نَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ!
قَالَ: فَارْجِعُوا وَالدّوْلَةُ لَكُمْ، فَإِنّي لَا آمَنُ إنْ رَجَعْتُمْ أَنْ تَكُونَ الدّوْلَةُ عَلَيْكُمْ»[12].
فألقى الله في قلوبهم الرعب، ففرُّوا مذعورين!
وعلى الجانب الآخر: تأمل كيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحمراء الأسد، كما شرحنا؛ إذ جروحه تثغب دمًا من كل مكان! «بل، وقد أَمَرَ أَلَّا يَخْرُجَ فيها إِلَّا مَنْ شَهِدَ غزوة أحد»[13]!
وليس القصد استيعاب الدروس من هذه الغزوة العظيمة التي أفردتُ لها بحثًا موسومًا بـ«غزوة أحد بين صعوبة المِحْنَة وعظمة المِنْحَة»، وقد فصَّلتُ فيها ما فتح الله به من السنن الربانية، والتربية الإلهية.
ويكفينا هنا تأمل العصمة الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ ردَّ عنه المشركين مذعورين وهم في نشوة انتصارهم، بينما النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجههم إلَّا بثُلةٍ من المثخنين بالجراح، والذين يَجُرُّونَ أجسادهم على الأرض جرًّا!
وهكذا لم يكن نصيب النبي صلى الله عليه وسلم من الابتلاء الرباني بأقلّ من حظه من العصمة الإلهية!
المثال الثالث: «فتنة الدجال» بين العصمة والابتلاء:
وهذا مثالٌ يجمع بين العصمة والابتلاء، ولكن لغير النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو لرجل من عامة المؤمنين؛ إذ يخرج هذا المؤمن مُواجِهًا الدجال فاضحًا لحقيقته، فيعذّبه الدجال عذابًا شديدًا، ثم: «يقطع الدجالُ المؤمنَ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حَتَّى يُفَرّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَمْشِي بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا.
ثُمَّ يَقُولُ المؤمن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلَ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا»[14].
فتأمل: كيف تسلَّط الدجال على قتل المؤمن أول مرة! هذا هو البلاء!
ولكن في الوقت نفسه، فإنَّه لا يقدر أن يصنع هذا مع أيِّ إنسانٍ آخر!
حتَّى هذا المؤمن نفسه الذي قتله! لن يستطيع أن يصنع معه هذا مرة أخرى! وهذه هي العصمة!
فقد اجتمع البلاء، والعصمة مع مؤمن آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم.
المثال الرابع: «فتنة يأجوج ومأجوج» بين العصمة والابتلاء:
وهو أيضًا مثال مع غيرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى -عليه الصلاة والسلام-: «إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ».
ثم يَقُولُ يأجوج ومأجوج: لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّ اللهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ. فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ[15] فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ»[16].
فتأمل كيف ابتُليَ عيسى والمؤمنون معه بفتنة يأجوج ومأجوج حتى جأروا إلى الله عز وجل، وفي الوقت نفسه كانوا معصومين من الله عز وجل أن يُقْتَلُوا! فجمع الله لهم بين البلاء الذي يتحقق لهم به الأجر، والمثوبة، والعصمة التي يتحقق بها البقاء والنصر!
فالرسل ليسوا مبتلين فقط، بل هم أكثر الخلق حظًّا من الابتلاء الذي يشتد بهم حتى يصل بهم الحالُ كما قال تعالى: {حَتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْـمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وكما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ومن أعظم فوائد ابتلاء الأنبياء: أن يجد الداعية في ابتلاء الأنبياء وشدته سلوانًا له عمَّا يناله في سبيل دعوته، ولولا استحضار هول البلاء المحيط بنبينا صلى الله عليه وسلم ؛ ما نهضت همّة الداعية لتحمُّل البلاء. ولعزَّى نفسه عن القعود قائلًا: ما جرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلا عصمة الله عز وجل من أيِّ بلاءٍ أو أذًى، أمَّا نحن فلا عاصم لنا من البلاء والأذى!
أما وقد رأى أنَّ الحظَّ الأوفى من البلاء لنبينا صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه حينئذٍ يرى فيما يصيبه شرف التشبُّه بسمته صلى الله عليه وسلم ، وكرامة الاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم ، وسمو السير في سبيله صلى الله عليه وسلم. وفوق هذا، فإن اعتصار البلاء للداعية ما هو إلا بشرى بقرب النَّصر كما وعد أصدق القائلين عز وجل: {أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
كما أنَّه لا بقاء للإسلام بغير الابتلاء والعصمة، فما الابتلاء إلا الْمُنْخُل الذي يُصَفَّى به النَّاس، فيخرج منه المؤمنون كالدقيق الحُوَّارَى، ويتخلصون بغربلة مُنْخُل الابتلاء من المنافقين المحشورين بينهم زورًا وبهتانًا!
بينما ترتفع بالبلاء درجات المؤمنين، وتعلو منزلتهم، وتسمو درجاتهم، وتكفر خطاياهم، وينقوا من زلاتهم!
ولكن في الوقت نفسه فإن دوام الابتلاء يمحق الإيمان وأهله، فتأتي العصمة الإلهية لتحول بين ذلك، ولتعيد المؤمنين فوق الكافرين!
وها نحن قد رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ ما من بلاء ابتُلي به إنسان إلا ابتُلي به؛ في نفسه، وأهله، وعِرْضه، وأبنائه، وأحفاده، وفي حياته، وبعد موته! ومع كل هذا الابتلاء العظيم فقد أتمَّ الله عليه النعمة، وأكمل عليه المِنَّة، ولم ينل منه أعداؤه الذي يريدون، وما أكثر المحاولات الفاشلة لاغتياله صلى الله عليه وسلم ، ولكنَّ الله عز وجل أنجاه منها جميعًا برحمته، حتى إن بعض المحاولين قد أسلم وعلى رأسهم الفاروق رضي الله عنه[17]، وعُمَيْر بْن وَهْب الْجُمَحِيّ رضي الله عنه[18]. أسأل الله عز وجل أن يعيننا على جمع كل المحاولات في بحث مستقل.
ولم يعد في العالمين أعلى منه ذِكْرًا، أو أرفع منه مقامًا، أو أسمى منه قدرًا في الدنيا أو الآخرة!
اللهم إنا نشهدك وكفى بك شهيدًا ألا عاصم لنا غيرك، ولا مغيث لنا سواك!
فارحم ضعفنا، واعصمنا من شر كلِّ ذي شر أنت آخذ بناصيته يا أكرم الأكرمين!
__________________________________________________________
الكاتب: محمد فريد فرج فراج
- التصنيف: