خط الدفاع الأول عن العباد والبلاد
محمد سيد حسين عبد الواحد
إن حاجتنا إلى بناء النفوس وإلى تهذيب الأخلاق وإلى تغيير الطباع من السيئ الى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن حاجة ملحة..
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)}
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)»
أيها الاخوة الكرام: إن حاجتنا إلى بناء النفوس وإلى تهذيب الأخلاق وإلى تغيير الطباع من السيئ الى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن حاجة ملحة..
ومن رجع الى تاريخ الشعوب والأمم، وإلى الأحوال التي مرت على العباد والبلاد من قبلنا.. وهم كثير.. عرف أن تراجع الشعوب والأمم وتخلفها وانهزامها، وفساد أحوال البلاد وربما هلاكها وزوالها، لا يرجع في الغالب إلى قلة عدد أفرادها ولا إلى النقص في عتادها ومن يظن أن خسائر الشعوب وانهزامها وزوالها تكون فقط بسبب ضعفها وقلة حيلتها ففكره قاصر، ونظره محدود فى الزمان والمكان..
إنما السبب المباشر الذي يهدد وجود العباد والبلاد هو فساد الأخلاق.. (فساد المعاملات، فساد السلوكيات، فساد الذمم، فساد النوايا)
قال أهل العلم إذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً..
قال الله تعالى {﴿ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَٰتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا۟ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾﴿ فَقَدْ كَذَّبُوا۟ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ۖ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنۢبَٰٓؤُا۟ مَا كَانُوا۟ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾﴿ أَلَمْ يَرَوْا۟ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا ٱلْأَنْهَٰرَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنۢ بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ ﴾}
إن الأمم لا تعلو ولا يرتفع شأنها بعد إذن الله تعالى، إلا بضمان من الفضائل والخصال الحميدة والأخلاق الحسنة التى تسرى بين أفرادها لتكون الأخلاق في كل أمة عنوان مجدها، ورمز سعادتها، وتاج كرامتها، وشعار عزها وسيادتها، وسر بقاءها ..
حينما يكون المجتمع معتدلاً في أخلاقه وسلوكياته ومعاملاته غيوراً على كرامته، يقدم رضا ربه على ما توسوس له به نفسه حينئذٍ يستقيم مساره، ويبقى في الوجود آمناً مطمئناً، وكأن الأخلاق (طوق نجاة) ورحم الله من قال:- صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم..
أيها الإخوة الكرام:
كما جاء الإسلام ليصحح عقائدنا جاء الإسلام أيضا ليحفظ (حياتنا وبقاءنا) من خلال تهذيبه لنفوسنا وأخلاقنا وهذا من أسمى ما دعا إليه الإسلام وان شئت فقل من أجل هذا بعث الله النبيين وأرسل الرسل :- قال النبي صلى الله عليه وسلم {إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق}
وصف أنس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «كان أحسن الناس خلقاً، والله ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا»
وقال أنس « إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، فكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع رسول الله يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده، ولا يصرف رسول الله وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يُر رسول الله مُقدم ركبتيه بين يدي جليس له »
أودع الله سبحانه وتعالى فى الاخلاق الحسنة وفى حسن التعامل سرا خفيا يضعف أمامه العدو، وينهار أمامه أهل الشهوات وتتلاشى بين يديه نوازع الشر والفساد..
خرج رسول صلى الله عليه وسلم إلى الصحراء في غزوة ذات الرقاع يجاهد في سبيل الله, فلما اشتدت الشمس تفرق لصحابة تحت الشجر ينامون، كل وضع رداءه لينام, وأخذ صلى الله عليه وسلم الشجرة الكبيرة فنام تحتها وخلع ثوبه وعلقه في الشجرة وأبقي على نفسه إزارا ثم اضطجع لينام فلما نام عليه الصلاة والسلام
«جاء رجل من الأعراب مشركا وسيف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معلق بالشجرة فاخترطه وأيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام,وقال: يا محمد أتخافني؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا فقال الأعرابى فمن يمنعك مني؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم(اللَّه) فسقط السيف من يد الاعرابى فأخذه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ثم هزه وقال للاعرابى: من يمنعك مني؟ فقال يا محمد كن خير آخذ، فقال له رَسُول اللَّهِ تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه وأخلى سبيلك ؟قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى رسول الله سبيله، فأتى الاعرابى أصحابه فقال يا قوم أسلموا فأن محمدا خير الناس» ..
ما أحوجنا فى زماننا هذا وفى بلدنا هذا، أن نسلك سبيل رسول الله، ونترسم خطاه فى تعاملاتنا وتصرفاتنا إن أردنا الخير وصلاح الأحوال..
علمنا رسولنا أن سماحة الاخلاق مع الناس والاحسان اليهم فى القول والعمل تحول العدو اللدود الى صديق حميم وتحول الكاره الى محب ومعين ونصير..
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال وما أدراكم ما ثمامة كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام فتلقى ثمامة رسالة رسول الله بالإعراض، وأخذته العزة بالإثم، فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير، وزاد شره حتى قتل عدداً من المسلمين ودبر مكيدة لقتل النبى فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
وبعد مدة ليست بالطويلة قدم به المسلمون أسيرا..
فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: «ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي يا محمد خيراً إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت»
فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم غير أنه أوصى أهل بيته أن يحسنوا اليه فقال «اجمعوا ما عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال»
«فلما كان اليوم التالى أتاه فقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي يا محمد خيراً إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت» فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم فلما كان اليوم الثالث، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه
«أطلقوا ثمامة فأطلقوه، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم رجع الى المسجد وقد زالت الغشاوة عن عينيه فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله» ..
فى الأيام التى قضاها فى المسجد رأى رسول الله بعينيه وسمعه بأذنيه وعاين أخلاقه فتغيرت الصورة القاتمة التي كان يحملها عن الإسلام إلى صورة مشرقة استنارت بها بصيرته اقترب وقال يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان في الأرض دين أبغض إلى من دينك، فلقد أصبح دينك أحب الأديان كلها إلي، والله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فلقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي....
ثم قال:-
إن أصحابك أخذونى وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فأذن له النبى أن يعتمر فاعتمر، فلما قدم مكة، علم أهل مكة بإسلامه، فقال له قائل منهم خرجت من دينك وتابعت محمداً ؟؟! صبوت يا ثمامة؟؟!
فقال: لا ما صبوت، ولكني أسلمت مع محمد لله رب العالمين ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كان بالأمس خصماً عنيدًا وعدوًا لدودًا يقتل المسلمين ويتآمر ليقتل رسول الله لكنه اليوم أُخذ إلى الإسلام أخذًا بحسن المعاملة، وأصبح الرسول أحب الناس إليه، وبلد الرسول أحب البلاد إليه والاسلام أحب الأديان كلها اليه، ويصبح خصيماً مبينًا وعدواً لدوداً لقريش إذ أنهم كانوا يعادون رسول الله، يأتيهم فى ديارهم فيقول ان أمر الرسول قد علا واشتد، فلا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كلما قرأت هذا الموقف عند أصحاب السير قلت صدق ربى إذ يقول { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }
من أعظم الدروس المستفادة مما سمعتم أن تعلموا أن الكلمة الطيبة صدقة، وأنها تبني ولا تهدم، وأن العنف يهدم ولا يبني، وأن الشدة التي تخلو من الحكمة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فما أحوجنا إلى أن نعي هذا الدرس..
نسأل الله تعالى ان يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق انه ولى ذلك ومولاه...
........................................................................................................
الخطبة الثانية
ايها الاخوة المؤمنون احباب رسول الله صلى الله عليه وسلم
نزل القران على النبى محمد صلى الله عليه وسلم ...قرأ النبى في كثير من آيات القرآن حديثاً صريحاً عن مساوئ أخلاقية كانت سببًا فى هلاك أمم وشعوب ممن كانوا قبلنا...
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِين وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
فهم رسول الله المراد من هذه الايات ... فهم أن الأخلاق هى رمانة ميزان إن مالت سلوكيات الناس وأخلاقهم عن الحق وسائت هلك أهلها وان استقامت وحسنت نجا وسلم أهلها..
قدم رسول الله المدينة فوجدها تموج بالفتن موجا يعيش سكانها على صفيح ساخن بينهم وبين بعضهم شحناء وبغضاء فرقت جمعهم ووهنت قواهم وكان رسول الله يأمل أن يبنى بالمدينة قاعدة يخرج من خلالها حشودا تدعوا الى الله تعالى..
فعمل رسول الله على بناء دولته فى المدينة بنائا صلبًا ذا أساس متين فلم يجد من أسس أقوى من أسس الإيمان ومكارم الأخلاق يبنى عليها دولته عمل النبى على تاليف القلوب ولم الشمل..
وزرع فى قلوب أصحابه بفعله وسلوكه وحسن معاملته قبل قوله حب الفضائل من رحمة ورأفة وقناعة وعفاف واخاء وايثار فضائل جمعت الناس على قلب رجل واحد اذا اشتكى تداعى له كل الناس بالحمى والسهر تربية أثمرت رجالا يثقون بربهم ويثقون بأنفسهم {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
لذلك تعجب يوم تعلم أن هذه الدولة التى أسسها رسول الله فى المدينة بقيت قوية متماسكة رغم كثرة حسادها وأعدائها الذين عاشوا حولها ومنهم من كان بين أهلها من منافقين ويهود ومشركين تحزبوا وتآمروا عليها فخيب الله سعيهم وجعل تدميرهم فى تدبيرهم والسر فى هذا ما كان عليه المسلمون من صفاء النفوس وتماسك الصفوف..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يؤلف بين قلوبنا إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.