العولمة إستراتيجية أمريكا للهيمنة

تَعتبِر الطبقة السياسيَّة في أمريكا أنَّ هدفَها الأسمى هو فرضُ الهيمنة الأمريكيَّة على العالَم، ولا بدَّ لتحقيق هذا الهدف من إستراتيجيَّة دقيقة، يمكن تلخيصها بكلمةٍ واحدة هي "العولمة"، هذه العولمة لها عدَّة أوجهٍ وأذرعٍ وأدوات تستخدمها أمريكا؛ منها:

عولمة اقتصاديَّة: وغرضُها السيطرة على رأس المال، وربْطُ الاقتصاد العالميِّ بالاقتصاد الأمريكي عن طريق آليات ومنظَّمات؛ مثل: الشركات المتعدِّدة الجنسيَّات، ومنظَّمة التجارة العالميَّة، والبنك الدولي، وصندوق النَّقد، واتفاقية الجات، وغيرها.

عولمة سِياسيَّة: وتهدف إلى تذويب الحدود بين الدُّول، والإلغاء التدريجي لسلطان الحكومات على شعوبها بطرقٍ؛ أهمها: تشجيع الأقليَّات العِرقية والدِّينية على التمرُّد، وإرسال الوفود والبَعَثات لتقصِّي الحقائق، وتقسيم العالَم إلى مناطق "جيوبوليتيكية"، ورسم إطار إستراتيجي لهذه المناطق تُراعَى فيه المصالح الحيويَّة لأمريكا؛ لتبقى هذه تدور دائمًا في الفلك الأمريكي، وكذلك اعتمادها بشكلٍ أساسيٍّ على أداتين رئيستين؛ لتحقيقِ السيطرة على العالَم، تتلخصان في فرْض العقوبات الاقتصاديَّة من ناحية، والتدخُّل العسكري المباشر من ناحية أخرى.

عولمة تكنولوجيَّة: فأمريكا لديها الطاقة التكنولوجيَّة الهائلة، القادرة على إنتاج مستويات أعلى وأرقى من المنتجات على مستوى العالَم كلِّه، وفي مجالات رائدة؛ مثل: الاتِّصالات، والهندسة الوراثيَّة، والفضاء، والطِّبِّ والدَّواء، تزيد بكثيرٍ على كل ما يُنتِجه العالَم أجمع، مع قدرةٍ غير مسبوقة على نشْر هذه المخترعات؛ لكي تكونَ مكوِّنًا رئيسًا لسوق الإنتاج والاستهلاك العالمي.

عولمة قانونيَّة: وغايتها وضْع تعريفات قانونيَّة لأوضاع سياسيَّة، يتمُّ على أساسها تصنيف الشُّعوب والدول والحركات، فمصطلح الإرهاب - مثلاً - لا ينطبق إلاَّ على كلِّ ما تعدُّه أمريكا مناوئًا لها ولسياساتها، وكذلك محكمة جرائمِ الحرب بـ"لاهاي" تطبَّق عن طريقها التعريفات الأمريكيَّة الانتقائيَّة، فيتمُّ محاكمة رئيس الصِّرب السابق ميلوسوفيتش بتهمة ارتكاب مذابح، ولا يُحاكم شارون بالرَّغم مِن أنَّ الاثنين قد ارتكبَا مجازر بشعة.

عولمة ثقافية وإعلامية: تفرض النموذج الغربي، خاصة الأمريكي في التفكير وطرائق الحياة على شعوب العالَم.

عولمة تربويَّة: بالتدخُّل في المناهج التعليميَّة في الدُّول، وتغيير عقول الناشئة، وتذويب هُويَّاتهم العقديَّة؛ ليسهلَ على وسائل الإعلام بثُّ القِيَم الأمريكيَّة البديلة.

عولمة أمنيَّة مخابراتيَّة: تقوم على التعاون بين مخابرات الدُّول المختلفة في ضرْب كلِّ مَن تُسوِّل له نفسه الوقوفَ أمامَ الهيمنة الأمريكيَّة، وتحاول في الوقت نفسه منعَ الاعتداء على المواطنين الأمريكيِّين في الداخل وفي الخارج، وعلى رأس أدوات أمريكا في تنفيذ هذا الشقِّ العولمي: وكالة الاستخبارات المركزيَّة الأمريكيَّة، التي تُعدُّ نموذجًا لأجهزة المخابرات في العالَم، بما تمتلكه من الوسائل التي توفِّر لها المعلومات بغزارةٍ من شتَّى أنحاء الكون، بالإضافة إلى جيشِ العاملين بها من الخُبراء في الشؤون الدوليَّة، والمحلِّلين للمعلومات التي ترد إليها على مدارِ الساعة؛ بهدف استشعار أي خطرٍ قبلَ وقوعه لإجهاضه، وهي السياسة الأمريكية المعروفة بالضربات الوقائيَّة.

عولمة عسكريَّة: وذلك بامتلاك أحدثِ الأسلحة في جميع المجالات العسكريَّة، التقليديَّة منها وغير التقليديَّة، معتمدة على أذرع طويلة في البحر، من حاملاتِ طائرات، ومدمِّرات، وغواصات، وفي الجوِّ من طائرات الشبح، والدِّرع الصاروخي في الفضاء.

وقد حاول بوش الصغير - الذي سيطرت عليه النزعةُ الأمريكيَّة بالسِّيادة والتفوُّق - وضْعَ أُسس جديدة للنظام العالمي، عندما أراد بناء الدِّرع الصاروخي لحماية أمريكا من صواريخ الدُّول المارقة، ضاربًا بعُرض الحائط معاهدةَ "IBM"، وهذا ما أقلق الأعداءَ والأصدقاء على السَّواء، كما رفض معاهدة "كيوتو" التي تحدُّ من نفث ثاني أوكسيد الكربون في الفضاء، متجاهلاً الرأي العالَمي حولَ البيئة، متناسيًا أنَّ الولايات المتحدة هي أكبرُ مسببي هذا التلوث، ورفض اقتراح التسوية حولَ الأبحاث "الجرثومية والبيولوجية"، كما امتنع عن دفْعِ مستحقَّات الأمم المتحدة، مخالفًا بذلك العُرْف الدولي، وآثر عدمَ الانخراط في مشاكلِ العالَم ما دامت لا تؤثِّر على زعامة أمريكا، أو تمسُّ مصالَحها مباشرة، وقد أوكل على وزير دِفاعه إعادةَ تنظيم القوات العسكريَّة الأمريكيَّة، وتسليحها وهيكلتها، فأدخل أبعادًا جديدة على الصِّراع، تتمثَّل في أسلحة الفضاء، وهو ما يخالف الاتفاقات الدوليَّة بعدم عسكرة الفضاء.

كلُّ هذا فعله بوش من منطلق النَّظرة الاستعلائيَّة المبنية على الإحساس بالتفوُّق الأمريكي، الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يسأله عمَّا يفعل، مجدِّدًا استعلاء فرعون الغابر حين قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} [غافر: 29]، وهو يدلُّ على الصلف والغرور، ومقدارِ ما وصلت إليه هذه الهيمنة من استهتار.