الشيخ الصّبيح وشيخُه…
والشيخ الصبيح يحيط به درَرٌ تلبس ثياب البشر، هم أبناؤه - رعاهم اللّـه-… وإنّ المرء ليعجب كيف جعل اللّـه من كل واحد منهم قرّة عين
- التصنيفات: تراجم العلماء -
يوسف جعفر إدريس - مجلة البيان
لقد كانت أول مرّة أسمع فيها شخصاً ينادي والدي حفظه الله بقوله: "يا شيخي..." كان صوته جهورياً، وإذا تحدّث شيخه تشعر بأنّه ينصت إليه بكل جوارحه، إلا أنه كان يناقشه ويختلف معه، ثم ينتهي النقاش غالباً بقوله: نعم، ويؤيّد شيخه فيما قال، ثم غالباً ما يضحك ضحكة إعجاب بعقل شيخه وحُجّته، وذلك من كريم نفسه ونُبل خُلُقه.
لم يكن الشيخ الدكتور عبد اللّـه الصّبيح -رحمه اللّـه- مجرّد محبّ لوالدنا، أو متيّم بكلام شيخه، وإنما هو منّا حقيقة آل جعفر …
عندما أخبرت الوالدة - رعاها اللّـه - اليوم بنبأ وفاة الشيخ عبد اللّـه ذرفت عيناها وقالت لي: 'عبد اللّـه …هذا واحد من أهل بيتنا' … وصدقت.
يقول الشيخ الصبيح: إنّه تعرّف على والدنا عندما كان طالباً في المرحلة المتوسّطة، ولم تنقطع صلَته بعلم الوالد وكتاباته مُذ ذاك.
كنت أراه ومعه مقال يريد أن يقرأه على الشيخ الوالد، قبل نشره، أو مجلّة طلب من الوالد أن يكتب فيها، أو دعوة لحضور جلسة علميّة، وكم كنت أجد إصراراً منه على أن يجمع أحباب الشيخ الوالد في عشاء يطعَمه الأبرار ويُدعى بأن تصلي الملائكة على مُعدّه…
وتبقى وشيجة الشيخ مع الشيخ دوماً في فيافي العلم ووارفات ظلاله…
كان من زينة العيد تزيّنُ مجلس الوالد في أول أيام العيد بالشيخ عبد اللّـه وأبنائه البررة ووالده -رحمه اللّـه- وخال أبنائه وأصدقائه: د. مبارك و د. الخرعان والشيخ الحبر - رحمه اللّـه- ، فلا يمكن أن يمر يوم العيد دون أن يُسعدنا الشيخ عبد اللّـه وأحبابه بزيارة تزيد العيد عيداً…
لا أذكر أني كتبت مقالاً إلا وعرضته على الصبيح؛ لينظر فيه بعينه الفاحصة، ويدلي فيه برأيه قبل نشره، واليوم …يال اليوم أكتب هذه الكلمات، وأتلفّت إلى الشيخ فلا أُراه إلا امرأً يلاقي ربّاً كريماً في أوّل منازل الآخرة.
لم تنقطع الصلة بين الشيخ الصبيح والشيخ الوالد حتى عندما أقعد كليهما المرض؛ فكانت في اتصالات الفيديو مندوحة ورحمة بهما، يدعو كل واحد منهما للآخر في مكالمات مرئية حيّة بحياة الحُبّ في اللّـه.
الشيخ عبدالله الصبيح ليس مجرّد عالم له بصمته الحيّة في علم النفس الإسلامي فحسب، بل هو مربٍّ من الدرجة الأولى، وكما قال شيخنا الشيخ سعد الشثري مرّةً: "إنك ترى الرّجل الصالح قد صلُح أبناؤه فلا تملك إلا أن تُعْجَب بذلك الرّجُل"، والشيخ الصبيح يحيط به درَرٌ تلبس ثياب البشر، هم أبناؤه - رعاهم اللّـه-… وإنّ المرء ليعجب كيف جعل اللّـه من كل واحد منهم قرّة عين…أسأل اللّـه أن يحفظهم ويجمعهم بالشيخ الحبيب في الفردوس الأعلى.
مثّلت ملاوي همّاً وعشقاً دعوياً للشيخ الصبيح وهكذا دأب النبلاء (صدور النبلاء ممتلئة بهموم غيرها)؛ فكانت ملاوي مزارَه في إجازاته ومحطاً لاهتمامه، فلا غرابة أن أخذ شيخَه والدي إليها غير ما مرّة، وكان يذكر لطائف تلك الزيارة كلّما سنحت سانحة، أسأل اللّـه أن يهيّئ لتلك الديار صَبِيْحًا آخر يملؤها بهداية اللّـه وسنّة خير خلق اللّـه صلى الله عليه وسلم.
كتَب الشيخ الصبيح كتابه عن 'التأصيل الإسلامي لعلم النفس' وقدّم لكتابه الدكتور مالك بدري -رحمه اللّـه- فأثنى على الكتاب وكاتبه خير الثّناء وأجزله، أسأل اللّـه أن يكون هذا الكتاب صدقة جارية له، وأن يهيّئ من ينقله للغات العالم لا سيّما الإنجليزية، والشيخ في كتابه كأنه حقّق أمنية من أمنياته شيخه جعفر - حفظه اللّـه - فيما يسمّى بـ'أسلمة العلوم"
لطالما كان يتّصل الشيخ - رحمه اللّـه - بأخي عبد الرحمن - حرسه اللّـه- ليحثَّه على نشر علم الوالد مقالاتٍ وكتباً وبحوثًا وأفكاراً، وكان دائماً يردّد قوله: "هذا الوقت الذي يحتاج الناس فيه علم الشّيخ".
ولم تُختم حياة الشيخ الصبيح حتى يسّر اللّـه له أن يتأمّل القرآن في سِفر سمّاه "تأملات في آيات: مدخلٌ لفهم القرآن"، وقد شرّفني اللّـه بأن أهداني الشيخ الصبيح نسخة من هذا الكتاب وهو في شدّة مرضه، وقال لي كلمة فحواها 'إن تأليف هذا الكتاب مثال لبركة العمل الدائم القليل، فهو حصيلة أعوامٍ من التأمل والتدوين وإن قلّ.
أسأل اللّـه عز وجل أن يكون القرآن شافعاً للشيخ، مُظلّاً له، رافعاً لدرجاته في الجنة، وأن يكون جُنّة له من فتنة النار وعذاب النار وفتنة القبر وعذاب القبر.
ومما كان يعجبني في الشيخ الصبيح بُعده عن الحديث عن النّاس، 'وهذا وربي من أنبل الشمائل (من أنبل الشمائل الإعراض عن الأعراض)'؛ فكان من أبرز صفات الشيخ الصبيح رحمه الله حرصه الواضح في حفظ حسناته أن يظفر بها شخصٌ يُغتاب، وكأنه يقول: "أنا أولى بحسناتي أن أهديها غيري"
الحديث عن الصبيح يطول، لطول الصُّحبة وعمق المحبّة، وحُسن العهد…
وحقه علينا وعلى محبيه وعارفيه أن يكثروا له من الدعاء الصالح في ظهر الغيب.
اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وارضَ عنه وأَرضِهِ وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يا رَبَّ العَالَمِينَ.