الدعاء
من تعلق بربه، واعتصم به، والتجأ إليه، وانطرح بين يديه، وأحسن الظن به، ودعا الله دعوة مضطر؛ أجابه، وفرَّج هَمَّه وكربه...
مما جبل الله خلقه عليه، تعلق الضعيف العاجز بمن هو أقوى منه، فالولد الصغير يتعلق بوالديه ويؤمل منهما نصره وتأييده، والفقير يتعلق بمن هو أغنى منه، ويؤمل منه التلطف والنفقة عليه، والمريض العاجز يتعلق بمن هو سبب شفائه، علَّه يصيب موضع علته ودائه، والضعيف العاجز يتعلق بمن هو أقوى منه علَّه يأخذ حقه وماله، والمظلوم يؤمل أحدًا ينتصر له ممن ظلمه، وفي التنزيل الكريم يخبر ربنا عن لوط عليه السلام مخاطبًا قومه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، وربما نفع العباد أو خذلوا أو عجزوا؛ ولذا كان لزامًا للعبد الضعيف الفقير المحتاج إلى التعلُّق بمن كل الأمر بيده، وتصريف الأمور له سبحانه كيف لا والله يفرح بطاعة الطائع وإقباله وسؤاله وتضرعه بين يديه؟ "الله يغضب إن تركت سؤاله" وقد ورد في الحديث: «من لم يسأل الله يغضب الله عليه» "وبني آدم حين يسأل يغضب".
عباد الله، شرع الله لعباده عبادة عظيمة هي الدعاء، والدعاء كما عرفه الخطابي رحمه الله: استدعاء العبد ربه عزَّ وجل العناية، واستمداد المعونة منه.
وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشهاد الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله سبحانه وإضافة الجود والكرم إليه.
الدعاء صلة بين العبد وربِّه، فمن منَّا لا همَّ ولا نَصَبَ ولا حزن له؟ ومن مِنَّا غير محتاج إلى ربِّه؟
من تعلق بربه، واعتصم به، والتجأ إليه، وانطرح بين يديه، وأحسن الظن به، ودعا الله دعوة مضطر؛ أجابه، وفرَّج هَمَّه وكربه، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
عبد الله، هل تعرفت وتأملت في عجزك وحاجتك لربك العظيمة ثم تأمل أخرى في عظيم كرم من تؤمله وترجوه، ففي الدعاء الحاجة حاجتك والمصيبة مصيبتك، فإن لجأت إلى الله أثابك وأجابك ورفع درجتك.
الدعاء هو العبادة، واقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]؛ بل جعل الله الدعاء أفضل عبادة، قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل العبادة الدعاء» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردَّهما صفرًا خائبتين».
فما أعظم كرمه وفضله! فالجميع مفتقر ومحتاج إليه، إليه ترفع الشكوى، وتبث الهموم في العَلَن والسِّرِّ والنجوى، وهو جلَّ شأنه خزائنه ملأى؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه الإمام مسلم من حديث أبي ذَرٍّ: «يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر».
فأين السائلون والمحتاجون، ثم اعلموا أن للدعاء آدابًا؛ منها الإقبال على الله، وحضور القلب في الدعاء، وأن ترفع يديك وتلحَّ في الدعاء وتكرره، وتبدأ بحمد الله والصلاة على رسوله، ثم تدعو بما تشاء، وألَّا تستعجل الإجابة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ليستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» ، وينبغي للعبد أن يكثر من الدعاء في الرخاء والشدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " «من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليُكثِر الدعاء في الرخاء» ".
وابتعِد عن المعصية وأكل الحرام تكن للإجابة أقرب، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنَّى يُستجاب لذلك)).
يا من دعوت واجتهدت، أبشر ببشرى نبيك صلى الله عليه وسلم: «ما من يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما إن يصرف عنه من السوء مثلها، فقال رجل: يا رسول الله، إذًا نكثر، فقال: الله أكثر».
والدعاء عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام، فأيوب لما مَسَّه الضُّرُّ لجأ إلى ربه ودعاه، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
وذو النون لما التقمه الحوت دعا ربه، قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
ورسول الله وصحبه الكرام لما دعوا ربهم يوم بَدْر أجابهم {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9، 10].
فيا صاحب الحاجات، ألا يكون لكم فيهم أسوة حسنة والله الذي وعدك بالإجابة، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الأمر بالدعاء واللجوء إلى الله لا ينافي العمل بالأسباب؛ بل العمل بالأسباب مع الاعتماد على الله سبحانه وتعالى هو كمال العقل والديانة.
وتخيَّروا في دعائكم أوقات الإجابة؛ كساعة الجمعة، وفي الثلث الأخير من الليل، وما بين الأذان والإقامة، وتخيروا في دعائكم السجود؛ فإنه أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد، وكذا قبل السلام، وبعد التشهُّد وقت إجابة.
عبد الله، لا تتعامل مع الدعاء على أنه آخر الحلول وأضعفها؛ بل تعامل مع الدعاء على أنه سيد الحلول وأولها تنقلب الموازين، وثق بنصر ربك واستجابته لك تسعد في الأولى والأخرى.
واعلم أنه كلما زاد يقينك بالله وأن الأمر كله بيده، زاد دعاؤك، والعكس بالعكس، فتأمَّل نفسك.
اللهم اجعلنا مُعظِّمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا مُعظِّمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك.
_________________________________________________
الكاتب:الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
- التصنيف: