واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
محمد لطفي الصباغ
إنْ كان الأساسُ الذي تَقُوم عليه الدعوةُ هو الاستِمساكَ بالحق، ورِعاية مصلحة الأمَّة، واللِّقاء على الثوابت - فهذه الدعوةُ هي الدعوة المقبولة، واللِّقاء على أَساسِها هو اللِّقاء المستمرُّ المُثمِر.
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
لقد أمَرَنا ربُّنا - جلَّ جلاله - بالاجتِماع والاعتِصام بحبلِه جميعًا، ونهانا عن التفرُّق؛ فقال - سبحانه -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وحذَّرَنا من التفرُّق في مَواضِعَ عِدَّة من القُرآن؛ فقال - تبارك وتعالى -: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} [آل عمران: 105 - 106].
وقال - سبحانه -: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32].
لقد أمَرَنا بأنْ نتَّقِيَ الله ونُقِيمَ الصلاة، وحذَّرَنا من أن نكون من المشرِكين الذين فرَّقوا دِينهم وكانوا أحزابًا.
وقال - سبحانه - في سورة الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وحذَّرَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من التفرُّق، وحَضَّنا على لُزُوم الجماعة في أحاديثَ كثيرة، نُورِد بعضَها فيما يأتي:
عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنْهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: «مَن رأَى من أمِيرِه شيئًا فلْيَصبِر علَيْه؛ فإنَّه مَن فارَق الجماعَةَ شِبرًا فمات، مات مِيتَةً جاهليَّة»؛ (رواه البخاري برقم (7054)).
وعن أبي ذرٍّ - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن فارَق الجماعة شِبرًا، فقد خلَع رِبْقَةَ الإسلام من عنقه»؛ (رواه الترمذي برقم (4758)).
وعن أبي الدرداء - رضِي الله عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «عليكم بالجماعة؛ فإنما يَأكُل الذِّئب القاصِيَة»؛ (رواه النسائي (2/107)).
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «... عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفُرْقةَ؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد وهو مِن الاثنين أبْعدُ، مَن أراد بُحبُوحَة الجنَّة، فلْيَلزَمِ الجماعةَ، ومَن سرَّتْه حسنتُه وساءَتْه سيِّئتُه، فذلكم المؤمن»؛ (رواه الترمذي برقم (2165)، وابن ماجه برقم (2263)).
وعن ابن عمر - رضِي الله عنْهما - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «إنَّ الله لا يجمَع أُمَّتي على ضَلالة، ويَدُ الله مع الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ إلى النار»؛ (رواه الترمذي برقم (2166)).
وعن ابن عبَّاس - رضِي الله عنْهما - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَدُ الله مع الجماعة»؛ (رواه الترمذي برقم (2167)).
وعن محمَّد بن جُبَير بن مُطعِم عن أبيه قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهنَّ قلبُ مؤمنٍ: إخلاصُ العمل لله، والنصيحة لوُلاَة المسلمين، ولُزُوم جماعتهم»؛ (رواه ابن ماجه برقم (3056)).
هذا الذي دَعانا إليه اللهُ تعالى، ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما جاء في هذه النصوص الصَّرِيحة السابقة، ولكن هل نحن كذلك؟
إنَّه ليُؤسِفني أنْ أقرِّر - بكلِّ مَرارةٍ - أنَّنا لسْنا كذلك.
في واقعنا العربي انقِسامٌ ومَحاوِر مُتَبايِنة؛ لأسبابٍ خارجيَّة وداخليَّة، وكان مِن جرَّاء ذلك الانقِسام تَراشُقٌ بالتُّهَم، وخِصامٌ وسِباب، وتَناحُرٌ وقِتال.
وكُلٌّ يدَّعِي أنَّه هو المُحِقُّ، إنَّه واقِعٌ مُؤلِم.
وتَقُوم بين الفَيْنَة والفَيْنَة دَعواتٌ إلى الاتِّحاد والتَّفاهُم والاتِّفاق، تَنطَلِق هذه الدَّعوات من جهات مُتعدِّدة:
تَنطَلِق حِينًا مِن فريقٍ صادِق، يَوَدُّ الالْتِقاء على كلمةٍ سواء، معتمدةٍ على كِتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومصلَحة الأمَّة، وتنطَلِق حينًا من فريقٍ مُرتَبِط بالأعداء، الذين أغرَوْه بالمكانة والمادَّة، فأصبَحُوا من ذَوِي الألْقاب الكبيرة، والثَّروات الواسِعَة، ورَحِمَ الله الشاعرَ خليل مردم، الذي صَوَّرَ هذا الفريقَ عندما تحدَّث عن الفَرنسيِّين وما فعَلُوه في الشام، فقال:
سَامَحَ اللَّهُ الْحَمَامَـــــهْ ** سَلَبَتْ جَفْنِي مَنَامَــــــــــهْ
نَحْنُ فِي الشَّامِ نُقَاسِي ** مِثْلَ أَهْوَالِ القِيَامَـــــــــــهْ
مَا لَنَا فِي أَمْرِنَا حَــــتْ ** تَى وَلاَ مِثْلُ القُلاَمَــــــــــهْ
أَخَذُوا الْأَمْرَ وَأَعْطَـــــوْ ** نَا "الْمَعَالِي" وَ"الفَخَامَـهْ"
هَلْ يَصِيرُ الْهِرُّ لَيْثًــــــا ** حِينَ تَدْعُوهُ أُسَامَـــــــــــهْ
كَمْ نُفُوسٍ تَتَلَظَّـــــــى ** حَسَرَاتٍ وَنَدَامَــــــــــــــــهْ
تَتَنَزَّى لِلَّتِي تَــــــــــــغْ ** سِلُ عَارًا وَمَلاَمَـــــــــــــــهْ
"أقوال مأثورة" (2 /75).
وتنطلق حينًا من فريق يكتَفِي بالمظهَر، ولا يلتَفِت إلى الأساس الذي تَكُون عليه الوَحْدة، والحُكْم على هذه الدَّعوات يختَلِف باختِلافِ الدَّافِع إليها، وباختِلاف الأساس الذي تَقُوم عليه.
فإنْ كان الأساسُ الذي تَقُوم عليه الدَّعوةُ هو الارتِماءَ في حِضْن الأَعداء، الذين نكَّلوا بنا - وما زالوا يُنكِّلون - فهي دعوةٌ مرفوضةٌ.
وإنْ كان الأساسُ الذي تقوم عليه الدَّعوةُ مُقتَصِرًا على (تبويس الشوارب) كما يقولون، وتَردِيد كلماتِ الوُدِّ والتَّسامُح والوَحدة، ويَبقَى كُلُّ فريقٍ على ما كان عليه، وقد يَدعُو أحدُ الفريقَيْن إلى التنازُل عن الثوابِت، فهي دعوةٌ مرفوضةٌ أيضًا، وقد حذَّرَنا ربُّنا من هذا التنازُل؛ وذلك في قوله - تعالى - مُخاطِبًا رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
وأمَّا إنْ كان الأساسُ الذي تَقُوم عليه الدعوةُ هو الاستِمساكَ بالحق، ورِعاية مصلحة الأمَّة، واللِّقاء على الثوابت - فهذه الدعوةُ هي الدعوة المقبولة، واللِّقاء على أَساسِها هو اللِّقاء المستمرُّ المُثمِر.
{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
وهذه الدعوةُ قائمةٌ على دِين الأمَّة وقِيَمها ومصلحتها، لا على الأهواء والمصالِح؛ ذلك لأنَّه لا يُمكِن أن يلتَقِي الناس على الهَوى؛ فالأهواء مُتعدِّدة بتعدُّد الأشخاص، ولكن الحقَّ واحد؛ قال الله - تعالى -: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50]، وقد خاطَب ربُّنا - تقدَّست أسماؤه - نبيَّ الله داود، فقال له: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
ونهى ربُّنا - سبحانه - عبدَه ورسولَه محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن طاعة مَن يتَّبع هواه؛ فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، إنَّ الأزمة مُستَحكِمة، وأخطارها ضخمةٌ أليمة، والعِلاج أن نتَّحِد ونتَوحَّد على كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورِعاية مَصلَحة البِلاد والعِباد، ونَنأَى عن التنازُع والتفرُّق؛ قال الله - تعالى -: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وقال - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
فيا حبَّذا الاجتماع على الكِتاب والسنَّة، ثم على مصلَحة الأمَّة، إنَّنا بذلك نُحقِّق لأمَّتنا عزَّةً سامِيَة، ومكانةً عاليَة، ولرسالتنا ذيوعًا وانتشارًا، ولقضيَّتنا نصرًا مُؤزَّرًا.
وإذا تحقَّق ذلك فلا يَعنِي هذا ألاَّ يكون هناك اختلافٌ في الرأي والاجتِهاد، كلاَّ، إنَّ اختِلافَ الناس في آرائِهم أمرٌ فَطَر الله الخَلْقَ عليه، فالحاكِم إنسانٌ مُعرَّض للخَطَأ كما هو مُعرَّض للصواب، وهو إنِ اجتَهَد مُثابٌ مَأجورٌ في الحالَيْن؛ يقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إذا حكَم الحاكِم فاجتَهَد فأصاب، فله أجْران، وإذا حَكَم الحاكِم فاجتَهَد فأخطأ، فله أجرٌ واحدٌ»؛ (رواه البخاري برقم (7352)، ومسلم برقم (1716)، وأبو داود برقم (3574)، والترمذي برقم (1326)، وابن ماجه برقم (1314)).
ويقول الله - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119].
وإذا كان ذلك كذلك فلا يَجُوز أن نُصَعِّد الخِلاف حتى يكون سببًا للتفرُّق، ورَحِمَ اللهُ القائلَ: "اختلاف الرأي لا يُفسِد للوُدِّ قضيَّة".
ولا بُدَّ أنْ يكون اختِلافٌ في الرأي في بعض الأمور، وهذا مُلاحَظٌ بين الزَّوج وزَوجته، وبيْن الأب وأولاده، وبيْن الأخ وإخوانه، وبين الشَّرِيك وشَرِيكه، وبين الإمام وتلامذته، فلقد خالَف أبو يوسف ومحمدٌ - تلميذَا الإمامِ أبي حنيفة - أستاذَهما في عددٍ كبيرٍ من المسائل.
إنَّ الخِلاف لا يُمكِن أنْ يُستَبعَد، وهو مقبولٌ عندما يكون في دائرة الشَّرْعِ، وعندما يكون أصحابُه متَّصِفين بالأخلاق الإسلاميَّة، من الصِّدق والإخلاص، والأمانة ومُراقَبة الله، والبُعْد عن الأَثَرَة والتَّعالِي.
نسأَلُ الله أنْ يردَّ المسلمين إلى دِينهم رَدًّا جميلاً، وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.