زين للناس
خالد سعد النجار
نقطة اختلاف جوهرية بين المنهج الرباني والمنهج الذي تختاره الجاهليات – كل الجاهليات– بما في ذلك الجاهلية المعاصرة.. ومحورها هو الإيمان – أو عدم الإيمان – بالله واليوم الآخر
- التصنيفات: التفسير -
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{{زُيِّنَ}} خلقها وأنشأ الجبلة على الميل إليها، أي جُعِل هذا الشيء زينًا في قلوبهم.
ومَن الذي زيّن؟ هل المزَيِّن الله عز وجل؟ أو المزين الشيطان؟
المزين هو الله، وقد أضاف الله التزيين إلى نفسه في عدة آيات {{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}} [الأنعام: ١٠٨]، {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:٤].
وأضاف التزيين –أيضًا- إلى الشيطان: { {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}} [النمل:٢٤]، لكن تزيين الشيطان إنما كان بالنسبة لأعمال هؤلاء، يعني زين لهم الأعمال، أما الأشياء المخلوقة فالذي يزينها هو الله عز وجل.
{{لِلنَّاسِ}} فمن الحكمة من هذا التزيين أن تكون هذه الدوافع محركات تدفع الإنسان للعمل، والقيام بمهمة الخلافة وعمارة الأرض.
ومن الحكمة -أيضا- أن تكون موضع ابتلاء للإنسان: هل يقف في تناول هذا المتاع عند الحدود التي رسمها الله؟ أم يتجاوزها طمعا في مزيد من متاع الحياة الدنيا فتفسد حياته في الدنيا ويذوق العذاب في الآخرة؟ كما قال تعالى: {{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}} [الكهف:7]
{{حُبُّ الشَّهَوَاتِ} } وعبر عن المشتهيات بالشهوات مبالغة، وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم، وناهيك لها ذماً قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ)» [رواه أحمد عن أبي هريرة]
وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير فيكون في ذلك تنفير عنها وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله.
{{مِنَ النِّسَاء}} ولم يقل: حب النساء، بل حب الشهوات، يعني أن يتزوج الإنسان المرأة لمجرد الشهوة لا لأمر آخر. لأن تزيين حب النساء إذا كان لغير مجرد الشهوة قد يُحْمَد عليه الإنسان، لكن إذا كان لمجرد الشهوة فهذا من الفتنة.
وفيه تقديم الأشد فالأشد، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهنّ أشد، وهن حبائل الشيطان. روى البخاري عن عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ)» . وفي البخاري أيضا قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ)»
ولفظ «الناس» في الآية يراد به عموم الجنس البشري: الرجال والنساء؛ لأن الجميع -في الجملة- مشترك في محبة هذه الشهوات الأربع التي هي أصول الشهوات الدنيوية، والتنصيص على شهوة النساء مراد به الرجال على الخصوص, ولم تذكر شهوة الرجال؛ لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف, كما قال الطاهر بن عاشور في تفسيره: "ولم يذكر الرجال؛ لأن ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع، وإنما تحصل المحبة منهن للرجال بالإلف والإحسان".
{{وَالْبَنِينَ}} ثنى بالبنين لأنهم شقائق النساء في الفتن. فقد يحب المرء البنين لا ليكون عونًا له على طاعة الله ولكن ليفتخر بهم، وخص البنين دون البنات لأنهم كانوا في الجاهلية يفتخرون بالبنين ويتشاءمون من البنات، فإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى {{ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ}} [النحل:٥٨-٥٩]: يختفي منهم مخافة المسبة، ثم يفكر ويقدر {{أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}} [النحل:٥٩]، يعني: أيمسك هذا المولود -وهو الأنثى- على هُون وذُلّ وهضم لحقها، أم يدفنها حية في التراب، قال الله تعالى: {{أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}} [النحل:٥٩]
وروى ابن ماجه عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَيَّةَ الثَّقَفِىِّ قَالَ: جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ وَقَالَ: «(إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ)» [صححه الألباني]
وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة قدمت الأموال على الأولاد.
{ {وَالْقَنَاطِيرِ}} القنطار ألف ومائة أوقية فضة {{الْمُقَنطَرَةِ} } الكثيرة بعضها فوق بعض. ومعناه المجتمعة كما يقول الألوف المؤلفة، اشتقوا منها وصفاً للتوكيد.
ذكر الله تعالى هذه المبالغ من الذهب والفضة؛ لأنه كلما كثر المال -في الغالب- افتتن الإنسان به، فإذا كانت قناطير مقنطرة من الذهب صارت الفتنة بها أشد.
{{مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}} نص عليهما لأنها أغلى ما يكون من الأموال، ولذلك تتعلق الرغبات بهذين الجوهرين: الذهب والفضة، حتى لو وُجِد جواهر نفيسة لا تجد تعلق القلوب بهذه الجواهر كتعلقها بالذهب والفضة. ولهذا كان الذهب والفضة قيمة لجميع الأشياء فكل الأشياء تباع وتشترى بهما.
{{وَالْخَيْلِ}} سميت خيلًا؛ لأن صاحبها غالبًا يبتلى بالخيلاء لأنها أفخر المراكب، فالراكب لها يكون في قلبه خُيلاء، أو لأنها هي تختال في مشيتها، ولهذا ترى الخيل عند مشيتها ليست كغيرها، تشعر بأن فيها ترفعًا واختيالًا.
روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)» .
وروى البخاري -أيضا- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا [أرخى لها الحبل] فِي مَرْجٍ [الموضع الذي يرعى فيها الدواب] أَوْ رَوْضَةٍ [المكان المخضر] فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ [الحبل الذي يطول للدابة ترعى فيه، ويشد أحد طرفيه في الوتد] فِي الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ [ومعنى الكلام: أن فرس المجاهد ليمضى على وجهه في الحبل الذي أطيل له فيكتب له بذلك حسنات]، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ [الاستنان العدو] شَرَفًا [شوطا] أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، فَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا [استغناء عن الناس] وَتَعَفُّفًا [عن السؤال] وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا [بأن يؤدي زكاتها، ومنه استدل أبو حنيفة على زكاة الخيل] وَلَا ظُهُورِهَا [أي ولا في ظهورها بأن يركب عليها في سبيل الله] فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ [تحجبه عن الفاقة]، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً [المناوأة هي العداوة، ناوأت الرجل: ناهضته بالعداوة] فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْحُمُرِ قَالَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ الْفَاذَّةَ [ليس مثلها آية أخرى في قلة الألفاظ وكثرة المعاني لأنها جامعة لكل أحكام الخيرات والشرور] الْجَامِعَةَ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. [ودلالة الآية على الجواب من حيث أن سؤالهم كان إن الحمار له حكم الفرس أم لا فأجاب بأنه إن كان لخير فلا بد أن يرى خيره، وإلا فبالعكس والله أعلم]»
{{الْمُسَوَّمَةِ}} ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد {وَالأَنْعَامِ} الإبل والبقرة والغنم وهى الماشية.
وأغلى هذه الأنواع هي الحمْر من الإبل، ولذلك يُضرب بها المثل في الغلاء والمحبة، قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب وقد وجهه إلى خيبر؛ قال: «(انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ)» [البخاري]
{{وَالْحَرْثِ}} الأرض المتخذة للغِرَاس والزراعة، وروى أحمد في مسنده عن سُويد بن هُبَيرة، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (خَيْرُ مَالِ امرئ لَهُ مُهْرة مَأمُورة، أو سِكَّة مَأبُورة) [أحمد بسند ضعيف] المأمورة الكثيرة النسل، والسِّكَّة: النخل المصطف، والمأبورة: الملقحة.
{ {ذَلِكَ}} بالمفرد المذكر للأشياء السابقة مع أنها جمع لأنه أراد معنى تحقير أمر الدنيا، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها، فلا ينبغي للإنسان أن يتبعه نفسه.
{{مَتَاعُ}} أي: المتعة التي يتمتع الناس بها في الحياة الدنيا. وغايتها الزوال؛ فإما أن تزول عنها، وإما أن تزول عنك، أما أن تخلد لك أو تخلد لها فذلك مستحيل، لا بد أن تفارقها أو أن تفارقك هي. وهذا أمر لا يحتاج إلى إقامة برهان.
{{الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}} زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة... ودنيا مؤنث أدنى، ووصفت بهذا الوصف لدنو مرتبتها بالنسبة إلى الآخرة، فليست بشيء بالنسبة للآخرة، قال تعالى: {{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}} [العنكبوت:٦٤] أي هي الحياة الحقيقية، وفي هذا تنقيص لهذه الحياة؛ ووالله إنها لناقصة، إن دارًا لا يدري الإنسان مدة إقامته فيها، وإن دارًا لا يكون صفوها إلا منغصًا بكدر، وإن دارًا فيها الشحناء والعداوة والبغضاء بين الناس، وغير ذلك من المنغصات إنها لدنيا.
وكذلك سميت دنيا لأنها أدنى من الآخرة باعتبار الترتيب الزمني، قال تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:٤]
{{وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}} حسن المرجع والثواب في الدار الآخرة؛ لأن مرجع كل إنسان إلى الآخرة؛ إما إلى جنة وإما إلى نار، وليس ثمة دار أخرى ثالثة.
وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع، وترغيب الإنسان بما عند الله عز وجل، وألا يتعلق بمتاع الحياة الدنيا.
** قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية، وخص هذه الأمور المذكورة؛ لأنها أعظم شهوات الدنيا, وغيرها تبع لها، قال تعالى: {{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا}} [الكهف:7] فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات، تعلقت بها نفوسهم, ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين:
قسم: جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم, وخواطرهم, وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فهؤلاء كانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
والقسم الثاني: عرفوا المقصود منها, وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانًا لعباده؛ ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم, وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم, ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، قد صحبوها بأبدانهم, وفارقوها بقلوبهم، وعلموا أنها كما قال الله فيها: {{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}} فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة, ومتجرًا يرجون بها الفوائد الفاخرة، فهؤلاء صارت لهم زادًا إلى ربهم.
وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترين بها, وتزهيد لأهل العقول النيرة بها.
** ويقول الأستاذ محمد قطب: إن المتاع محبب للإنسان، والعبارة القرآنية الحكيمة تؤكد هذه الحقيقة: {{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}} فليس المزين للناس في الآية القرآنية هو الشهوات. إنما هو { {حُبُّ الشَّهَوَاتِ}} وهو تعبير دقيق عن مدى توغل الشهوات في النفس الإنسانية. «وكل زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى» كما يقول البلاغيون.
ومن ثم فإن تزيين {{حُبُّ الشَّهَوَاتِ}} آكد في بيان عمق الشهوات في النفس من تزيين الشهوات ذاتها، وأدل على أن النفس مفطورة على حب المتاع. ولحكمة ربانية أراد الله ذلك. ولكنه سبحانه وتعالى أمر الناس أن يضبطوا منطلق الشهوات [الضبط غير الكبت]، وأعطاهم الأداة المعينة على الضبط، والتوجيهات التي تجعله ميسرا على أصحابه، وفي مقدمة ذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والتوجه إلى القيم العليا، والجهاد في سبيلها.
فحين لا يؤمن الإنسان باليوم الآخر، تصبح الحياة في حسه فرصة واحدة إن ذهبت لا تعود، وهي فرصة محدودة بحدود العمر البشري، بل بحدود الصحة والقوة والاستطاعة من ذلك العمر، وهي من ثم فرصة قصيرة قصيرة لا تشبع! فيكون هم الإنسان في تلك الحالة أن ينكب على المتاع بكل طاقته، ليعب منه ما يستطيع قبل الفوات! ويكون كذلك كارها لكل الضوابط – أو المشاغل- التي تحد من ذلك المتاع!
وليس كذلك من يؤمن بالله واليوم الآخر. فالأمر في حسه مختلف. إنه يستمتع، نعمّ ولكن في غير لهفة على المتاع، لأنه يؤمن أن ما يفوته من المتاع في الحياة الدنيا نتيجة تقيده بالضوابط الربانية أو بأي سبب كالجهاد في سبيل الله، ليس ضائعا، وليس ذاهبا بلا عودة، بل هو محفوظ له عند الله أولا، ثم هو معوض عنه ثانيا بنعيم لا ينفد في الجنة التي «(فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)» [حديث متفق عليه] ومن ثم يضبط شهواته، دون أن تتلف نفسه من عملية الضبط.
ثم إنه مشغول بقيم عليا، وجهاد في سبيل هذه القيم، يصرفه عن التعلق بهذه الشهوات حتى تصبح همه المقعد المقيم:
{{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}} [آل عمران]
{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}} [الصف]
فلا شيء يقنع الإنسان أن يقف عند الحدود التي رسمها الله إلا إيمانه بأن ما يفتقده في الحياة الدنيا –طاعة لله واحتسابا- ليس ضائعا في الحقيق، إنما هو رصيد مذخور، يتسلمه أضعافا مضاعفة يوم القيامة، يهنأ به ويستمتع، بينما الذين غرقوا في المتاع الحرام محرومون.
بل ترتقي نفسه درجات فوق ذلك.. فلا يعود حد المباح هو الذي يحجزه عن التجاوز. إنما يشعر –قانعا- أنه لا يحتاج لأن يصل إلى آخر الحد المباح! فقبله –بقليل أو كثير- تنتهي رغباته، ويزهد حتى في المتاع المباح! لا لأن نفسه قد ماتت ولم تعد ترغب! كلا! فما يريد الإسلام أن يقتل رغائب النفس، وقد خلقها الله لعمارة الأرض. ولكن لأن رغباته قد اتجهت وجهة أخرى أرحب وأعمق، وأعلى وأشف.
وهكذا تتوجه الطاقة الحية إلى عالم أرفع من عالم الحس، إلى «عالم القيم» التي تجعل حياة الإنسان كريمة عالية رفيعة، لائقة بالإنسان الذي أسجد الله له الملائكة وكرمه وفضله على كثير ممن خلق.
وهذه نقطة اختلاف جوهرية بين المنهج الرباني والمنهج الذي تختاره الجاهليات – كل الجاهليات– بما في ذلك الجاهلية المعاصرة.. ومحورها هو الإيمان – أو عدم الإيمان – بالله واليوم الآخر [رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، بتصرف]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار