انفصال تكساس وتفكك أمريكا
عامر عبد المنعم
يبدو أن الولايات المتحدة على موعد مع تجدد المعركة القديمة بين الجنوب والشمال، فالصراع الذي ظهر على السطح بين الحاكم الجمهوري لولاية تكساس غريغ أبوت والرئيس الأمريكي بايدن أبعد من مجرد خلاف
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
يبدو أن الولايات المتحدة على موعد مع تجدد المعركة القديمة بين الجنوب والشمال، فالصراع الذي ظهر على السطح بين الحاكم الجمهوري لولاية تكساس غريغ أبوت والرئيس الأمريكي بايدن أبعد من مجرد خلاف على موضوع المهاجرين، فانضمام حكام 25 ولاية إلى المعركة وإعلان استعدادهم لإرسال قوات الحرس الوطني التابع لهم لمساندة تكساس ضد الحكومة الفيدرالية يكشف عن عمق الانقسام في المجتمع الأمريكي.
تفجرت المعركة عندما قرر حاكم تكساس طرد القوات الفيدرالية من نقاط الحراسة على الحدود مع المكسيك، ونشر الحرس الوطني للولاية مع بناء سور من الأسلاك الشائكة لمنع دخول المهاجرين، وردت إدارة بايدن باللجوء إلى المحكمة العليا التي أمرت بإزالة الأسلاك وعودة الوضع إلى ما كان عليه، لكن الحاكم التكساسي رفض ولم يعبأ بتهديد الحكومة الفيدرالية التي أعطته مهلة للانسحاب خلال 24 ساعة وإلا فسيكون التدخل بالقوة! كانت الفرصة مواتية لظهور ترمب مجددا، الذي طالب الحكام الجمهوريين بمساندة تكساس ووضع بايدن في موقف حرج، فكانت الاستجابة الجماعية من نصف حكام الولايات الخمسين ضد الحكومة الفيدرالية، واحتشادهم مع ثاني أغنى ولاية في أمريكا، ونشرت مجلة نيوزويك الأمريكية خريطة وقد انفصلت تكساس عن الولايات المتحدة بعلمها القديم حين كانت دولة مستقلة، مصحوبة بتقرير مطول عن الدعوة الشعبية إلى الانفصال.
أمام هذا التمرد الجماعي تراجعت إدارة بايدن عن التصعيد ولم تنفذ تهديدها، وفضل الرئيس الأمريكي التهدئة والرجوع إلى الكونغرس لتسوية الخلاف، وسن قانون خاص بالهجرة يحظى بموافقة الحزبين، وكان هروبه من المواجهة خطوة إلى الوراء لتجنب مواجهة أخطر من مواجهة تمرد ترمب عندما رفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات.
انقسام مجتمعي وليس منافسة انتخابية لا يمكن اختزال الصراع الذي ظهر على السطح بكل هذه الحدة في المنافسة الانتخابية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فالمساندة التي يحظى بها ترمب رغم الانتقادات الموجهة إليه من معسكره ليست لشخصه وإنما لشعور المحافظين الإنجيليين البيض بتراجع تأثيرهم ونفوذهم، وتناقص حجمهم الديموغرافي والديني في العقدين الأخيرين لصالح الأقليات الأخرى.
لم يتقبل المحافظون نتيجة الانتخابات الرئاسية الماضية بسبب شعورهم بالخطر، وكان مما نسب إلى ترامب أن “الرئاسة إن ذهبت منا فلن تعود إلينا مرة أخرى”؛ ولهذا كان اقتحام جماعات من اليمين الأمريكي للكونغرس، في محاولة يائسة لمنع إعلان النتيجة والإقرار بفوز بايدن (الكاثوليكي)، ولم يظهر زعيم يجمعهم في معركة الثأر غير ترامب ولهذا يصطفون خلفه رغم ما يتعرض له من محاكمات وعراقيل لمنعه من الترشح. وفي المقابل تشعر دوائر السلطة والوكالات الأمريكية بالخطر من عودة ترامب الذي قدم تجربة سلبية في فترة رئاسته بسبب النزعة الفردية والحكم العائلي الذي تجاهل تقاليد البيت الأبيض، وتبنى أفكار اليمين المتطرف التي تدور حول التفوق العرقي للسكان البيض البروتستانت من أصل أنجلوساكسوني، وعدم احترام التنوع ومعاداة الحكم الفيدرالي والمنظمات الأممية، وما تشكله هذه الأفكار من تفكيك للولايات المتحدة. الأمريكيون البيض الذين يعلنون اليوم رفضهم لاستقبال المهاجرين ينسون أن أمريكا أسسها المهاجرون القادمون من أوروبا، فالبيوريتان الإنجليز الذين سيطروا على الساحل الشرقي للقارة الأمريكية الشمالية ثم وصلوا إلى الساحل الغربي ارتكبوا المذابح ضد السكان الأصليين وقتلوا أكثر من 100 مليون هندي، وخاضوا حروبا دامية ضد الفرنسيين والإسبان الذين سبقوهم إلى هذه الأرض وطردوهم، وطبقوا مبدأ مونرو الذي يقرر أن الأمريكتين منطقة نفوذ أمريكي وشأن يخص حكومة الولايات المتحدة وحدها.
موضوع الهجرة له أبعاد إنسانية وهو نتيجة طبيعية لسياسات أمريكية سابقة خربت الدول في الجمهوريات التي كانت تديرها شركة الموز الأمريكية في أمريكا الوسطى بالانقلابات العسكرية الموالية التي منعت أمريكا اللاتينية من الاستقلال والتقدم، بل إن تكساس التي تعلن الآن الحرب على المهاجرين وتبني أسوارا لمنع القادمين من المكسيك هي في الأصل أراضي مكسيكية ومعها الولايات الجنوبية مثل كاليفورنيا وأريزونا ونيومكسيكو وقد أخذت من المكسيكيين بالحرب والقتال. يعيد تحدي تكساس للحكم الفيدرالي وإحياء النزعة الانفصالية وانضمام ولايات البيض المحافظين إليها، الانقسام التاريخي بين الشمال والجنوب، الذي قاد إلى الحرب الأهلية (1861 – 1865) التي قتل فيها نحو 800 ألف أمريكي والتي عرفت بحرب تحرير العبيد، بسبب رفض البيض في الولايات الجنوبية ومنها تكساس تحرير السود الأفارقة الذين يعملون في مزارع القطن وقصب السكر.
تراجع السكان البيض وأزمة البروتستانتية:
يشعر الأمريكيون البيض بأن تراجع نسبتهم الديموغرافية في الولايات المتحدة في العقود الأخيرة يمثل خطرا على مستقبلهم في إطار الاتحاد الفيدرالي، ففي التعداد الذي أعلنه مكتب الإحصاء الأمريكي في أغسطس 2021 انخفض عدد الأمريكيين البيض إلى 57.8% وانخفض عدد البيض عن عدد الأقليات غير البيضاء في 6 ولايات منها تكساس التي تبحث عن الانفصال وتحارب المهاجرين. صاحب تراجع عدد البيض الأمريكيين تراجع البروتستانتية بنسبة كبيرة بسبب زيادة حركة الارتداد عن المسيحية وانضمام الكثير من الأمريكيين إلى طائفة اللادينيين، ففي إحصاءات الكتاب السنوي للمخابرات المركزية الأمريكية ”fact book“ تشير الأرقام إلى أن عدد البيض في عام 1990 كان 85% والبروتستانت 61% واللادينيين 7%، ثم انخفض عدد البيض عام 2000 إلى 83% والبروتستانت إلى 56% وزاد اللادينيون إلى 10%، وفي عام 2010 انخفض عدد البيض إلى 79.9% والبروتستانت إلى 51.3% وزاد اللادينيون إلى 12.1%، وحدثت القفزة في الاتجاهين في إحصاءات عام 2024 حيث انخفض البروتستانت إلى 46.5% وارتفع اللادينيون إلى 22%.
تراجع نسبة وعدد البيض وتآكل البروتستانتية ليس فقط بسبب زيادة المهاجرين والارتداد عن المسيحية؛ وإنما لتراجع الخصوبة وتعطل الزواج بسبب شيوع الانحراف الأخلاقي وتشجيع الشذوذ وتغيير شكل الأسرة، حيث تشير الأرقام إلى شيوع الشيخوخة في الأوساط البروتستانتية وعدم رغبة المتزوجين في الإنجاب بسبب الأنانية الدنيوية وقيم العلمانية.
إن الدعوة إلى انفصال تكساس مجرد بداية لانفجار المشاعر المكبوتة والرغبة في الاستقلال والعودة إلى ما قبل تأسيس الولايات المتحدة، فالضعف الإمبراطوري وتآكل الهيمنة واتساع موجة التمرد العالمي، كل ذلك يرتد على الداخل الأمريكي، حيث تنتعش أفكار التعصب العرقي للبيض والشعور بالفوقية، التي تورات لكنها لم تختف منذ الهزيمة العسكرية وانتصار الشمال المتحرر على الجنوب المحافظ في الحرب الأهلية منذ أكثر من 150 عاما.
الأفول الأمريكي نرى إرهاصاته في صعود القوى العالمية وتعدد الأقطاب، والعجز الأمريكي أمام انتشار الحروب والمعارك التي تشكل النظام الدولي الجديد، ولن يترب على هذا الأفول الانسحاب من العالم فقط، وإنما سيؤدي حتما إلى بروز التناقضات والصراعات المخفية وتفكيك الولايات المتحدة، التي تعتمد على قوة السلاح والبارود لفرض هيمنتها في الخارج وقهر نزعات التمرد في الداخل.
ستتفكك أمريكا وتنقسم إلى أكثر من دولة، وستنتهي إمبراطوريتها مثل غيرها من الإمبراطوريات، التي ازدهرت فترة من الزمن ثم شاخت بسبب ظلمها وانهيارها الأخلاقي والحضاري ثم سقطت وانهارت.