من أضرار المعاصي وأخطارها الخاصة والعامة
احذَرُوا المعاصي والذُّنوب، واتَّقوا خطَرَها على الأبدان والقلوب، وانظُرُوا وتفكَّروا في بليغ أثرها في الأوطان والشُّعوب..."
الحمد لله مُوقِظ القلوب الغافلة، بالتذكير والوعظ، المتفرِّد بتَصرِيف الأحوال والإِبرام والنقض، المطَّلع على خلقه فلا يَخفَى عليه مثقال ذرَّة في السماوات والأرض؛ ولذلك حذَّر عباده من هول الموقف يوم العرض؛ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18].
أحمَدُه - سبحانه - على نِعَمِه التامَّات السابِغات، وأسأَلُه - تعالى - للجميع الوقاية من السيِّئات، والتوفيق للصالحات من أعمال اللسان والحواس والجوارح والنيَّات، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاة من العذاب الشديد، يوم لا تَكَلَّم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي دعا إلى الإخلاص لله في التوحيد، والبراءة من الشرك والتنديد، وجاهَد في الله حقَّ جِهاده، حتى استَقامت الأمَّة على دين الله الحقِّ على رغْم أنْف كلِّ مُشرِكٍ عنيد، وكلِّ كارِهٍ حاسد من كتابِيٍّ أو مُنافِق بليد.
صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه، الذين طَهَّرَ الله بجهادهم البلادَ من شرْك الوثنيَّة، وبغْي اليهوديَّة، وضَلال النصرانيَّة، وكل منكر وفساد، فرَضِي الله عنهم وأرضاهم، ووعَدَهم كلَّ خيرٍ، وأثنى عليهم بكلِّ وصف جميل، وعملٍ صالح جليل، وجعَلَهم أئمَّة الناس والشُّهَداء عليهم في الدنيا ويوم المعاد.
أمَّا بعد: أيُّها الناس:
تُوبُوا إلى الله قبل أنْ تموتوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قبلَ أنْ تُشغَلوا، وصِلُوا ما بينكم وبين ربكم بكثْرة ذكركم له تَسعَدوا، وأَكثِروا من الصدقة تُرزَقوا، وأمُروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تُنصَروا، ولا تستَعمِلوا جوارح غذيت بنِعَم الله في التعرُّض لسخط الله بمعصيته، ولا تشتَغِلوا بأموالكم بما فيه ظلمُ عبادِه ومحاربته، واجعَلُوا شغلَكم بالتِماس مغفرته، واصرفوا همَّكم بالتقرُّب إليه بطاعته، وإيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنَّ لها من الله طالبًا، وإنهنَّ يجتمعنَ على المرء فيُهلِكنه.
أيها المسلمون:
اتَّقوا الله ربَّكم وأَطِيعُوه، وامتَثِلوا أمرَه ولا تعصوه، واقتفوا أثرَ نبيِّكم محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جميع أموركم وسائر أحوالكم واتَّبِعوه، فإنَّكم إنْ فعلتُم ذلك رجوتُم ألاَّ تُصابُوا بشيءٍ تكرَهُونه، وإنْ خالَفتُموه فقد تُعاقَبون بما لا تُطِيقونه، فآمِنُوا بالله وتَوَكَّلوا عليه في جميع الأمور، وأَحسِنوا الظنَّ به وتضرَّعوا إليه يَدفَع عنكم الشُّرور؛ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، ومَن ضرع إليه مضطرًا زالَ كربُه.
أيها المسلمون:
اعلَمُوا أنَّ الله - تعالى - قد جعَل لكلِّ شيءٍ سببًا يجلبه، وآفة تذهبه، وقد جعَل - سبحانه - الطاعات أسبابًا لجلب النِّعَم، حافظةً لها، ووسائل لاستِقرارها وزيادتها، وكثرتها وتنوعها، فطاعة الله تُحفَظ بها النِّعَم الموجودة، وتُستَجلَب بها النِّعَم المفقودة، فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلاَّ بطاعته، فاحفَظُوا بطاعة الله ما لديكم من النِّعَم، واطلُبُوا بها المزيد من ذي الجود والكرم، أمَّا المعاصي فقد جعَلَها الله أسبابًا مُذهِبة للنِّعَم، جالِبَة للنِّقَم؛ فهي تُزِيل النِّعَم الحاصلة، وتقطع النِّعَم الواصلة؛ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال: 53 - 54].
أيها المسلمون:
احذَرُوا المعاصي والذُّنوب، واتَّقوا خطَرَها على الأبدان والقلوب، وانظُرُوا وتفكَّروا في بليغ أثرها في الأوطان والشُّعوب؛ فإنها والله سلَّابة للنِّعَم، جلَّابة للنِّقَم، مُورِثة لأنواعٍ عظيمةٍ من الفساد، ومُحِلَّة لأنواعٍ من الشُّرور والفِتَن والمصائب في البلاد، أمَا علمتُم أنَّ المعاصي بريدٌ للكفر، وقاصمةٌ للعمر، ونازعةٌ للبركة من الرِّزق، فكم سبَّبت من قلَّة، وأورثت من ذلَّة، وسوَّدتْ من وجه، وأظلمَتْ من قلب، وضيَّقت من صدْر، وعسَّرت من أمر، وحرَمت من علم، ألاَ وإنَّ العبد ليُحرَم الرزقَ بالذنب يُصِيبه، ويُحرَم العلم بالمعصية يقتَرِفها، وإنَّ من عقوبة السيِّئة فعْلَ السيِّئة بعدها؛ فإنها تحبِّب العاصي إلى جنسها، فتجره إلى مثلها، وتُوقِعه في نظيرتها؛ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161].
وبذلك يَظهَر سرُّ دَوام تخلُّف بعض الناس عن الصلوات، وكسلهم في القِيام إليها في كثيرٍ من الأوقات، وإدمان كثيرٍ من العُصَاة تَعاطِي المسكرات وأنواع المخدرات، واستمرار آخرين منهم في أكل الربا، وإصرارهم على أنواعٍ من المنكر والفَحشاء، وكثْرة المتبرِّجات والمترجِّلات من النِّساء، فذلك من شؤم المعاصي على أهْلها، حتى إنَّ صاحِبَها لَيفعَلُها مع علمه بحكمها، وشدَّة ضررها، وعظيم خطرها؛ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، {قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43].
أيها المسلمون:
ومن أعظم أضرار المعاصي أنها تنزع الحياء من نفْس العاصي، حتى يُجاهِر بها الداني والقاصي، ويُعلِنها بعد أنْ فتن بها واستحسَنَها، ويرى أنَّ الإصرار عليها ضرورة، والمجاهرة بها مَفخَرة، واعتبروا ذلك بِمَن فتن بإسبال الثياب، وحلْق اللِّحى، فإنَّه قد أعجب بالفتنة واستَبشَع السنَّة، ورأى المعصية حسنة وزينة، فلا يخرج من بيته للناس إلا وهو عاصٍ لربِّه، مخالفٌ لسنَّة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي الصحيح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «كلُّ أمَّتي مُعافًى إلا المجاهرون».
والإِصرار على المعصية، والافتخار بالسيِّئة، واحتِقار الخطيئة - علاماتٌ على فَساد القلب، وذهاب الحياء، وانتِكاس الفطرة، وعَمَى البصيرة؛ ولذا تجد مَن هذه حالُه لا يُفكِّر في التوبة، ولا يخشى عاقبة الخطيئة، وربما خطَرتْ له التوبة ولكن يُبتَلَى بالتسويف، حتى يفجَؤُه الموت على حين غرَّة، فلا تُقبَل منه التوبة عند المعايَنة؛ قال - تعالى -: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18].
فشرط قبول التوبة أنْ تكون المعصية بجهالة - وما عُصِي الله إلا بجهل - وأنْ تكون عن قرب زمن الخطيئة، ومَن تاب قبلَ الموت فقد تاب من قريب، فإنَّ ذلك علامةُ خشيةِ الله - عزَّ وجلَّ - ولا تُقبَل التوبة من المصرِّين على المعصية حتى الموت، ولا من كافرٍ مستمرٍّ على كُفرِه حتى حضَرَه الموت، وقد قال ربُّ العالمين أحكَمُ الحاكمين لفرعون اللَّعٍين: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91].
أيها الناس:
ومن أخطر عقوبات المعاصي على الداني والقاصي أنَّ المعصية قد تعرض لصاحبها عند الوفاة فينشَغِل بها، وتصدُّه عن قول لا إله إلا الله، كما ذكَر ذلك العلامة ابن القيِّم - رحمه الله -: قيل لرجلٍ: قل: لا إله إلا الله، فقال: هو كافرٌ بما يقول، وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: كلَّما أردت أنْ أقولها فلساني يمسك عنها، وقيل لثالث - وكان شحاذًا -: قل: لا إله إلا الله، فقال: لله فُلَيس، لله فُلَيس حتى مات، وقيل لأحدهم - وكان تاجرًا -: قل: لا إله إلا الله، فقال: هذه القطعة رخيصة، هذا المشتري جيد، وكان رجلٌ من المطففين في الميزان فقيل له عند الموت: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع أنْ أقولها؛ لأنَّ كفَّة الميزان على لساني، عياذًا بالله من حسرة الفوت، والفتنة في الدنيا وعند الموت.
فتوبوا جميعًا أيُّها المؤمنون إلى بارئكم، واستَغفِروه من جميع معاصيكم في حاضركم وماضيكم، وفِرُّوا إليه وحثُّوا الخطى؛ فإنَّه - سبحانه - يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، واحذَرُوا أسبابَ سوء الخاتمة؛ فإنها والله الحادثة القاصمة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9 - 11].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.
- التصنيف: