غزة في مواجهة الجيش الإسرائيلي والجوع والبرد
يعيش ما يقرب من مليوني شخص من النازحين داخليا في قطاع غزة في الغالب في أماكن مكتظة مع إمكانية محدودة للغاية للحصول على المياه النظيفة والصرف الصحي، مما أدى إلى زيادة حادة في انتشار الأمراض.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
عندما فرت من حي الشيخ رضوان شمالي غزة جنوبا برفقة ابنها محمد (5 أعوام) جراء القصف الإسرائيلي أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت إسراء كمال الجملان حاملا في شهرها الثامن. قطعت الأم وطفلها مسافة الكيلومترات الثلاثة الفاصلة بين منزلها ومستشفى الشفاء سيرا على الأقدام. وشأنها شأن الكثيرين الذين احتموا بالمستشفى، لم تأخذ إسراء معها سوى عدد قليل من القمصان والسراويل الخفيفة لأنها كانت تتوقع عودة قريبة إلى منزلها.
بعد مضي شهرين على نزوحها، ما زالت السيدة البالغة 28 عاما تقيم وعائلتها في واحدة من مئات الخيام التي نصبت وسط قطاع غزة من دون أي وسيلة يمكن أن تحميها ومولودها الجديد من الشتاء القاسي ودرجات الحرارة المتدنية المصحوبة بالأمطار، التي ضربت القطاع المحاصر.
تقول إسراء وهي تحتضن مولودتها ذات البشرة الشاحبة: "عندما أنجبتها لم يكن المطر قد هطل هنا بعد، كنت وزوجي نحاول البحث عن مأوى يقينا من المطر بعدما تسربت المياه من شقوق الخيمة". وأضافت "مررنا بأيام صعبة لم نشهد مثلها من قبل".
ويكافح الزوجان لتدفئة مولودتيهما داخل الخيمة التي أجبرهم التهجير القسري على اللجوء إليها في ظروف مناخية قاسية ومن دون ملابس أو أغطية. علما أنهما لن يتمكنا من نقلها إلى الخارج قرب النار التي يشعلها النازحون بجوار الخيمة طلبا للدفء، لأن الدخان يسبب لها صعوبة في التنفس.
تقول إسراء عن ذلك اليوم الذي قربت فيه المولودة الجديدة من النار لأول مرة: "في ذلك اليوم ظلت تسعل حتى تحوّل لونها إلى الأزرق.. كنا مرعوبين من أنها قد تموت"، وأضافت بصوت مرتعش: "أنا قلقة على ابنتي؛ فهي لم تحصل على تطعيماتها لغاية الآن".
ويمتد موسم الشتاء في غزة عادة من ديسمبر/كانون الأول إلى مارس/آذار وتصحبه درجات حرارة منخفضة تصل في المتوسط إلى 8 درجات. ومن شأن الأمطار الغزيرة والعواصف الرعدية أن تزيد من صعوبة نجاة أولئك الذين تقطعت بهم السبل واضطروا للإقامة في خيام مؤقتة من دون سقف يحميهم.
وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي وقع المتوقع، حيث هطلت أمطار غزيرة مصحوبة برياح قوية، مما أدى إلى جرف الخيام المتداعية، وإغراق ملابس النازحين والأغطية التي كانوا يحتمون بها.
وعندما شنت إسرائيل حربها بعد هجوم "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان الطقس وقتها ما زال دافئا ومحتملا بالنسبة للذين أجبروا على ترك منازلهم في شمال غزة، والاتجاه جنوبا وهم يرتدون ملابس صيفية وخفيفة.
لكن وضع هؤلاء النازحين تحوّل سريعا مع منع الجيش الإسرائيلي عودتهم إلى منازلهم، وتدمير أو هدم أكثر من 60% من وحدات غزة السكنية، وشح المساعدات الإنسانية التي تصل إلى القطاع. وأكدت إحصاءات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في منتصف فبراير/شباط الجاري تدمير 70% من البنية التحتية المدنية في القطاع. لذا فلا سبيل للحصول على ملابس دافئة تحمي من البرد.
يقول سليم الجملان (28 عاما) زوج إسراء: إن البرد يمنعهم من الحركة. وأوضح: "كما تعلمون، لم نتمكن من أخذ أي ملابس معنا، ولا حتى وثائقنا الشخصية". "الجو بارد جدًا في الليل. نحتضن بعضنا بشدة في الليل، لأنه لا يوجد مصدر للدفء".
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وضعت إسراء طفلتها في مستشفى. وخاطت طبيبة الولادة جروحها من دون استخدام مسكن للألم. أما الطفلة فلفّها والدها أولا بسترته، قبل أن يزودهما أحد العاملين في المستشفى بقطعة ملابس للمولودة الجديدة.
عن قطعة الملابس اليتيمة تقول إسراء: "ترتديها منذ ولادتها. حتى عندما تتقيأ، أقوم بمسح القيء فقط لأنني لا أستطيع خلعها لغسلها، فالجو بارد". أما زوجها فيقول بنبرة ملؤها الإحباط: "لم أتوقع أن تولد ابنتي في وضع كهذا". ويضيف: "في منزلنا، كان لدينا حقيبة طفل جاهزة لها. كنا سعداء للغاية واستعددنا لولادتها. لا أعرف ماذا حدث لنا، للجميع. كان الله في عوننا جميعا".
بالنسبة للأشخاص العاديين، من شأن التعرض لسوء التغذية أو البرد لمدد طويلة التأثير على حالتهم الصحية. وتتضاعف هذه المخاطر في حالة أطفال قطاع غزة الذين يمثلون أكثر من نصف سكانه. ومن شأن انخفاض حرارة الجسم وسوء التغذية التأثير على الصحة العقلية وعمل القلب والرئتين والجهاز الهضمي.
شادية عرقان نازحة من حي الشجاعية شرق مدينة غزة. كانت عائلتها من بين عائلات كثيرة نزحت جنوبًا سيرًا على الأقدام تحت رقابة الجيش الإسرائيلي. تقول شادية "كان زوجي يحمل هويته في يد وعلما أبيض في اليد الأخرى. كنت أحمل هويتي أنا أيضا في يدي. أما أطفالي فكانوا يحملون حقائب الظهر الخاصة بهم".
روت شادية البالغة من العمر 42 عامًا وهي أم لأربعة أطفال قائلة: "واصلنا السير حتى وصلنا إلى ما يسمى بالطريق الآمن". وزادت: "مررنا بالقرب من الدبابات الإسرائيلية، وبمجرد مرورنا، بدؤوا بإطلاق النار على بعد قدمين منا. بدأت أدعو الله أن ينقذ عائلتي". تقول شادية: إن عائلتها هربت ومعها زاد يوم واحد من الطعام والماء والمال. وأضافت أنهم جميعا يعيشون حاليا في خيمة "شديدة البرودة".
أتاحت كمية المال التي حملتها شادية شراء بعض الملابس المستعملة لأطفالها. وهي تقول في هذا الصدد: "اشتريت لهم بعض الملابس الشتوية المستعملة، وأشعلنا بعض الحطب للتدفئة". وأضافت: "لسوء الحظ، تمكنت فقط من شراء قطعة واحدة من الملابس لكل واحد منهم".
يشار إلى أن أسعار الضروريات الأساسية مثل الملابس الشتوية والمواد الغذائية ارتفعت في غزة في ظل استمرار الحرب والحصار، مما صعب على النازحين والعاطلين عن العمل الآن شراء هذه المواد.
ومع ندرة الوقود وضعف فرص الوصول إلى سخانات الكهرباء أو الغاز، يلجأ نازحو غزة إلى قطع الأشجار للحصول على الحطب للتدفئة، وتسخين المياه لأغراض الطهي والاستحمام. لقد اضطروا إلى قطع أشجار الزيتون التي تستغرق سنوات لتنمو، وهي تشكل كذلك مصدرا رئيسيا للغذاء والزيت في الأراضي الفلسطينية.
ويكافح النازحون الفلسطينيون أيضًا من أجل العثور على الغذاء الكافي، علما أن الجوع يجعل من الصعب على جسم الإنسان أن يبقى دافئًا.
كان سليم، زوج إسراء، يعمل بناء وميكانيكي دراجات، لكنه لم يتمكن من العثور على عمل منذ بدء الحرب. تقول إسراء في هذا الصدد: "زوجي لا يعمل الآن. ولا يملك شيكلا واحدا. كنا نعيش على المعونات (من منظمات الإغاثة)". وأضافت: "في بعض الأحيان يعطوننا أرزا أو قسيمة".
عندما التقت الجزيرة بإسراء وسليم، لم يكونا قد تناولا الطعام طوال اليوم لأن المساعدات الغذائية ليست منتظمة. كان سليم يطبخ الباذنجان الذي قال إنه حصل عليه من والدته، لكنه لم يتمكن من العثور على خبز ليأكله معه. وقال: "زوجتي تعاني من سوء التغذية، ولا تستطيع إرضاع ابنتنا"، مضيفا: "حتى لو أردنا تحضير زجاجة من الحليب، فلا توجد طريقة صحية لتدفئة الحليب. إذا أردنا غلي بعض الماء للطفل، علينا أن نشعل البلاستيك والورق، وهو أمر غير آمن".
يعيش ما يقرب من مليوني شخص من النازحين داخليا في قطاع غزة في الغالب في أماكن مكتظة مع إمكانية محدودة للغاية للحصول على المياه النظيفة والصرف الصحي، مما أدى إلى زيادة حادة في انتشار الأمراض.
وبسبب الازدحام غير الاعتيادي انتشرت بينهم الأمراض الموسمية مثل الأنفلونزا ونزلات البرد. وقال الدكتور محمد زيارة (36 عاما)، وهو طبيب يعمل في المستشفى الأوروبي في خان يونس بجنوب غزة: "حتى موظفو (المستشفى) يصابون بشكل متكرر بنزلات البرد أو الفيروسات الموسمية".
يشار إلى أن الدكتور محمد زيارة كان في الأصل يعمل في مستشفى الشفاء في شمال غزة، لكنه نزح بدوره جنوبًا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بعد صدور الأمر بإخلاء أكبر منشأة طبية في القطاع.
ويقول الدكتور زيارة: إن مسكنات الألم أو أدوية البرد والأنفلونزا التي لا تتطلب وصفة طبية غير متوفرة حاليا بسبب استمرار الحصار والحرب، والمستشفيات مثقلة بالأعباء، ولا يمكنها علاج سوى المصابين بجروح خطيرة أو المصابين بأمراض مزمنة.
وتابع: "معظم القضايا الطبية والأمراض هنا لا يتم الاعتناء بها. لقد انهار النظام الطبي بالكامل"، مضيفا أن هذا النظام كان قبل الحرب ومع استمرار الحصار ونقص الأدوية "جاثيا على ركبتيه بالفعل".
يشار إلى أن منظمة الصحة العالمية لاحظت زيادة في الأمراض المعدية بما في ذلك التهابات الجهاز التنفسي الحادة، والجرب واليرقان والإسهال. وفي الجنوب، يمكن لحالات متلازمة اليرقان الحادة المبلغ عنها أن تكون علامة على التهاب الكبد، الذي يلوح في الأفق.
وقالت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية الدكتورة مارغريت هاريس، لقناة الجزيرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: "ما قد يكون سعالا أو نزلة برد بالنسبة لك أو لي هو حكم الإعدام على الأطفال الذين يعانون بالفعل من سوء التغذية والإجهاد".
ومع توقف خدمات الصرف الصحي عن العمل وتدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع، ثارت المخاوف من ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي والأمراض المعدية. وبوجود ملاجئ مكتظة بالنازحين بما يفوق طاقتها الاستيعابية، هناك نقص في المراحيض.
يقول إبراهيم عرفات، زوج شادية، وهو مصرفي من بنك القدس في مدينة غزة، "من أجل استخدام الحمام، علينا أن نقف في طابور طويل في المستشفى". وأوضح أن الأمر يستغرق حوالي ساعة لتجاوز الطابور.
ويمضي قائلا: "يتم نقل الطين من الشارع إلى الحمام، ويستخدم الجميع من كل الأعمار الحمام نفسه، الأطفال والكبار. أما النساء فيتعين عليهن السير بين مياه الصرف الصحي الطافحة للوصول إلى دورات المياه الخاصة بهن. إنه أمر لا يوصف".
ينصح عرفات عائلته بعدم الوقوف في الطوابير أمام دورات المياه للوضوء لتجنب الوقوف في البرد والتعرض للجراثيم. ويقول عرفات وهو يضرب كفا بكف من الإحباط: "بالأمس، أردت بعض الماء الدافئ للوضوء، فذهبت زوجتي إلى المستشفى واستخدمت الموقد الكهربائي لتدفئة الماء". وختم: "لم أستحم منذ شهر".
تعيش غدير حرب (50 عامًا) في خيمة في دير البلح مع 11 فردًا من عائلتها، بما في ذلك زوجها وأطفالها الثلاثة وأربعة أحفاد. ونظرا لعدم قدرتهم على توفير ما يكفي من البطانيات أو الملابس، تنام الأسرة مع بعضها بعضا ليلاً للحصول على الدفء. وللحصول على الغذاء، يعتمدون على المساعدات الإنسانية، ولكنهم لا يحصلون عليها دائمًا.
تقول غدير: "إنهم (منظمات الإغاثة) يقومون بتوزيع بعض الأشياء في بعض الأحيان، ولكن هنالك ناس كثر. نتعرض للإذلال للحصول على أي شيء نحتاجه". وتضيف: "من الصعب علي أن أتوسل للحصول على حاجتي".
يقول متحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لقناة الجزيرة: "إننا نتحرك بسرعة لإيصال مستلزمات الشتاء الأساسية للناس في غزة". ويضيف: "مع ذلك، فإن المساعدات المسموح بها لا تتناسب مع الاحتياجات الهائلة للسكان". وأضاف المتحدث: "دعونا نؤكد أن التحدي الأكبر يكمن في شدة القصف في الجنوب. ومن الصعب للغاية نقل المساعدات أو إيصالها تحت سماء مليئة بالغارات الجوية وأثناء القصف".
وقال مدير الأونروا توماس وايت: إن الوكالة مكلفة بتوزيع دقيق القمح على نحو مليوني شخص، لكنها لم تتمكن من فعل ذلك بسبب نقص الإمدادات. يشار إلى أن الأونروا قالت إنها قامت حتى 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي بتوزيع الدقيق على أكثر من 125 ألف عائلة تعيش خارج ملاجئها في جنوب غزة.
وقال وايت: "لم نتمكن من جلب ما يكفي من الغذاء لمليوني شخص". "وثانيا، نفدت المخزونات المتوفرة لدى جميع التجار بشكل أساسي خلال الأسابيع القليلة الأولى (من الحرب)، ولم يتمكنوا من إعادة تخزين بضاعتهم".
يشار إلى أن الأشخاص الذين لديهم نقود لا يستطيعون الاستفادة منها، حيث لا يكاد يوجد أي شيء يمكن شراؤه في السوق. وعندما تصبح المساعدات متاحة، يصطف الناس خارج مراكز التوزيع التابعة للأونروا في جميع أنحاء قطاع غزة، حيث تم تسجيلهم ويتم تسليمهم قسائم لاستلام دقيق القمح الخاص بهم.
ووفقا لوايت: " فإن الظروف ميؤوس منها الآن، ويعيش الناس في ظروف بائسة للغاية وهم يشعرون بالبرد. ولكن أود أن أقول إن أسوأ ما في فصل الشتاء لم يصل بعد. لم نشهد انخفاضًا كبيرا في درجات الحرارة حتى الآن". وأضاف وايت "لم نشهد عاصفة كبيرة قبالة البحر الأبيض المتوسط".
ويتابع المسؤول الأممي: "عندما نواجه عاصفة كبيرة قبالة البحر الأبيض المتوسط، أعتقد أن الكثير من الملاجئ لن تنجو منها. وبعد ذلك سيشعر بالبرد والرطوبة والجوع مئات الآلاف من الأشخاص الذين يعيشون في الشوارع".