التحذير من خطر اللسان
إن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران، وإن أشدها ضررًا وأعظمها جريرةً وخطرًا، ما كان من سيئ الكلام متعلقًا بالله وآياته ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام،
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
إن اللسان من عجائب خَلْقِ الله، يعبِّر عن مستودعات الضمائر، ويُخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يُقدَر على ردِّ شوارده، وحقٌّ على كل عاقل أن يحترز من زلاته؛ فإنه ما من كلمة ينطق بها الإنسان من خير أو شر إلا لديه مَلَكٌ يراقبه ويحفظ قوله ويكتـبه؛ قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
وقد أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ اللسان إلا عن قول الخير والإحسان؛ فعن أسود بن أصرم رضي الله عنه أنه قال: ((يا رسول الله، أوصِني، قال: «هل تملِك لسانك» ؟ قال: فما أمْلِكُ إذا لم أملكه؟ قال: «أفتملك يدك» ؟ قال: فماذا أملك إذا لم أملِك يدي؟ قال: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير»؛ (أخرجه الطبراني وصححه الألباني).
واللسان مع صغر جِرْمِهِ، فإنه عظيمٌ جُرْمُهِ، فمن تَرَكَهُ مرخيَّ العِنان، قاده الشيطان إلى كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هارٍ، إلى أن يضطره إلى البوار؛ وفي الحديث: «وهل يُكِبُّ الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخِرِهم - إلا حصائد ألسنتهم»؛ (أخرجه الإمام أحمد وغيره، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح).
ولقد جاء الوعيد بالإبعاد عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم المعاد لمن أطلق لسانه، ولم يُلْجِمه بلِجام الشرع، وخاض فيما يضر ولا ينفع؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون، والْمُتَشَدِّقون، والْمُتَفَيْهِقون، قالوا: يا رسول الله، قد علِمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون»؛ (أخرجه الترمذي وحسنه)، والمتشدق الذي يتطاول على الناس بكلامه.
عباد الله، واللسان سَبُعٌ ضارٌّ، وأول فريسته صاحبه، ورُبَّ كلمة جرى بها اللسان هَلَكَ بها الإنسان، وكم من حرف أدى إلى حَتْفٍ! وقد تساهل الخَلْقُ في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان لِيُوبِقَ دنياه وأخراه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد لَيتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالًا، يرفع الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يَهْوِي بها في جهنم»؛ (أخرجه البخاري)، فتعوَّذوا بالله من شر ألسنتكم؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ذلك؛ فعن شكل بن حميد رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، علمني تعوذًا أتعوذ به، قال: فأخذ بكفِّي فقال: «قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر مَنِيِّي» ؛ يعني: فَرْجَه)؛ (أخرجه الترمذي، وصححه الألباني).
وكان أبو بكر رضي الله عنه يُمسك بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني الموارد"، وقال عمر رضي الله عنه: "من كثُر كلامه كثُر سَقْطُه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان"، وكان ابن عباس رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: "ويحك قل خيرًا تَغْنَمْ، واسكت عن سوء تسلَمْ، وإلا فاعلم أنك ستندم"، وقال الحسن رضي الله عنه: "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".
عباد الله: إن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران، وإن أشدها ضررًا وأعظمها جريرةً وخطرًا، ما كان من سيئ الكلام متعلقًا بالله وآياته ورسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، قليل ذلك كثير، ويسيره كبير: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].
ألَا فَلْيَحْفَظْ كل عبدٍ لسانه عن قولٍ على الله بغير علم ولا برهان، ولْيَصُنْ كلامه عن ألفاظ الشرك والكفران؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
وإن من الآفات العظيمة الغِيبة ونقلها بالنميمة؛ فبها تحُلُّ في القلوب السَّخِيمةُ، وتُقطَع الصلات الحميمة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وشِرارُ عباد الله المشَّاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحِبَّة، الباغُون البُرَآءَ العَنَتَ»؛ أي: الهلاك والفساد؛ (أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الألباني).
وإن مما يدني من العذاب والنيران، ويُوقِع في غضب الرحمن الكذبَ والافتراء والبهتان؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار»؛ (متفق عليه).
وقال عليه الصلاة والسلام: «ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله رَدْغَةَ الخَبال حتى يخرج مما قال»؛ (أخرجه الإمام أحمد، والحاكم، وصححه)، وردغة الخبال: عصارة أهل النار، وجاء في الحديث: ( «(أتدرون من المفلس» ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أُمَّتى من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار»؛ (رواه مسلم).
فمن أراد السلامة - يا عباد الله - فليحفظ لسانه إلا من الخير، وليصنه ويتعاهده؛ فإن السلامة لا يعدلها شيء؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه، أضمن له الجنة»؛ (أخرجه البخاري).
هذا، وصلوا وسلِّموا على إمام المرسلين، وقائد الغُرِّ المحجَّلين؛ فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه؛ حيث قال عز قائلًا عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].