وهل هلال رمضان
أيها الكرام، الكون كله يتأهب لرمضان، نعم فهذه أبواب السماء تفتح، وأبواب الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق، وتسلسل مردة الشياطين، إنها فرحة الكون كله، إن الكون كله لينتشي بهجةً بسيد الشهور.
الحمد لله الذي أنعم علينا بالإيمان، وفرض علينا الصوم في رمضان، لنيل الرضا والرضوان، من الله الملك الديان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده رب السموات والأكوان، العزيز الغفار المنان، ونشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه إمام العادلين وقدوة العاملين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم واقتفى أثرهم وسار على دربهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا منة الله عليكم بهذا الدين، وما تفضل عليكم به من العبادات ومواسم الخيرات، قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
رمضان في قلبي هماهم نشـــــوة ** من قبل رؤية وجهك الوضاء
قالوا بأنك قادم فتهلَّلــــــــــــــــت ** بالبشر أوجهنا وبالخيـــــــلاء
وتطلعت نحو السماء نواظـــــــــر ** لهلال شهر نضــــــــارة ورواء
تهفو إليه، وفي القلوب وفي النهى ** شوق لمقدمه، وحسن رجـاء
أيها الكرام، الكون كله يتأهب لرمضان، نعم فهذه أبواب السماء تفتح، وأبواب الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق، وتسلسل مردة الشياطين، إنها فرحة الكون كله، إن الكون كله لينتشي بهجةً بسيد الشهور.
وكيف لا يشتاق المسلم إلى رمضان وقد جفَّت الأرواح، وتصحرت القلوب؟! فغدا رمضان للقلوب الأمل في ريها بالقرآن، والمنبع الذي تتزود فيه النفوس من زاد التقوى.
عباد الله، لا تزال نِعَم الله جل وعلا علينا تتابَع، وإحسانه لنا يكثر حينًا بعد حين، وكل يوم نحن منها في مزيد، فما تأتي نعمة إلا وتلحق بها أخرى، يرحم بها عباده الفقراء إليه، والمحتاجين إلى عونه وغفرانه وإنعامه.
ألا وإن من أجل هذه النعم، وأرفع هذه العطايا، وأجمل هذه المنن، نعمته عز وجل علينا بقرب دخول شهر رمضان، فهنيئًا لمن أدركهم رمضان وهم في عافية ونعمة وأمان، فأحسنوا استقباله وصيامه وقيامه، وتعرضوا لنفحات ربهم سبحانه، حافظين لحدوده، معظمين لشرعه، فتنافسوا في الطاعات، واجتنبوا السيئات.
احمدوا الله -أيها الصائمون- إذ لم يجعلكم الله في عداد الأموات، واشكروه جل وعلا على نعمة الصيام؛ فلقد حرم فضل هذا الشهر شرار الخلق عند الله من الكفار والمنافقين وعباد الشهوات وأصحاب الشبهات.
استقبلوا شهر رمضان المبارك بانشراح الصدور واغتباط النفوس وسرور القلوب؛ فرحًا بما خصكم الله تبارك وتعالى به من الخصائص العظيمة، وما ادَّخَره جل وعلا لكم من الأجور الكريمة، فإنه شهر مغفرة ورحمة، وخير وكرامة، وعتق من النار، وموسم كريم يغتنمه الأبرار؛ بما يعلي مقامهم، ويرفع درجاتهم عند الرحيم الغفار، ببلوغ الدرجات العالية في جنات تجري من تحتها الأنهار {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 21، 22].
رمضان -أيها الصائمون- وما أدراكم ما رمضان؟! رمضان الذي رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فقال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»، وقال: «قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» ؛ (متفق عليهما) .
وقال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه»، قال: فيشفعان؛ (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني) .
وقال: «من صام رمضان، إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» ؛ (متفق عليه) .
أي نفس تسمع هذه المرغبات وهذه المحفزات ثم لا تسعد برمضان وبالصوم والطاعة فيه؟!
عباد الله، إن محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
معاشر المسلمين، إن الأفراد والأمم لمحتاجون لفترات من الراحة والصفاء لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جد من أدواء، وشهر رمضان المبارك هو مدرسة إيمانية لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وتقوية الصلة بالله، وإصلاح النفوس، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، وانطلاقة جادة لحياة أفضل، ومستقبل أكمل؛ إنه مضمار يتنافس فيه المتنافسون للوصول إلى قمم الفضائل، ومعالي الشمائل، وبه تتجلى وحدة الأمة الإسلامية؛ ولكن هذا الأثر العظيم لا يأتي هكذا دون أن يقدم العبد عملًا أو يبذل جهدًا، فحريٌّ بالمسلم أن يخص هذه الأوقات بمزيد من التعبد والطاعات، والإكثار من الأعمال الصالحات، ولا يفوت هذه الفرصة التي أكرمه الله بها.
أيها المبارك، اجعل من هذا الشهر نقطة تحول في حياتك، لا ترض بالقليل منه، بل اجتهد كل الاجتهاد أن يكون رمضان هذا العام خيرًا مما قبله.
شهرنا يا كرام شهر القيام والتراويح، فاعمروه كله بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغفرة الذنوب لمن قامه كله لا بعضه! فلا تفرط في ليلة من لياليه.
فاللهم أعنا جميعًا على صيام رمضان وقيامه إيمانًا واحتسابًا، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
بارك الله لنا في شهرنا، ووفقنا جميعًا لمرضاته والعمل بكتابه، اللهم بلغنا رمضان ووفقنا للصيام والقيام وسائر الأعمال وتقبَّله منا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وكفِّر عنا سيئاتنا وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.
فقد ذكر ابن الجوزي في التبصرة أنه لو قيل لأهل القبور: تمنوا؛ لتمنوا يومًا من رمضان.
أيها الإخوة الأكارم، لا تجعلوا هذا الشهر كأي شهر، لا تجعلوا رمضان هذا كأي رمضان، لا تجعلوه عادةً من عاداتكم، لا تجعلوا صيامكم كصوم بعض الناس الذين يعدون رمضان فرصةً للاجتماع والسمر والسهر ومتابعة عروض القنوات ومشاهدة المباريات، وفرصةً للنوم والكسل! فليس هذا هو الصيام الذي يريده الله عز وجل.
ولنحذر كذلك من تقديم العبادة بشكل هزيل أو مظهر عليل؛ لأن الواجب تعظيم شعائر الله {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ ولذا كان الإحسان أعلى مراتب الدين؛ لاستشعار مراقبة الله للعبد في كل حين، كما في الحديث المخرج في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، قال النووي رحمه الله تعالى: هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئًا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به؛ انتهى كلامه.
نعم يجب أن نؤدي هذه الطاعات بإحسان وإتقان وحضور قلب، ولن يكون ذلك إلا بإدراك فضلها، واستشعار أجرها، وتعلم أحكامها، والإقبال على الله فيها.
وختامًا أيها الصائمون، فإن أيام رمضان أيام معدودات، سريعة الانقضاء، وهو موسم يتطلع فيه الصالحون لرحمات الله تبارك وتعالى، وعفوه ومغفرته، وينتظرون فيه فرجه ومدده، وحسن عطائه، عندئذ يحصل الغفران الذي يفوز به المؤمن، وهو فرصة جديدة وسانحة من سوانح العمر لحياة متألقة بالطاعة والدنو من الله عز وجل.
أما الغافل المتبع لهواه -غير متفكر في آلاء الله ونعمه- فيوشك أن يخسر خسارةً قد لا تعوض، إلا أن يتوب، فرَبُّ رمضان هو ربُّ سائر العام، من جاءه تائبًا نادمًا تقبله وغفر له. فعمر الإنسان هو موسم الزرع في هذه الحياة، والحصاد غدًا في الآخرة؛ فلا يحسن بالعبد أن يضيع موسم زرعه؛ حتى لا يندم في يوم حصاده!
إن هذا الشهر -أيها المؤمنون - يرحل كما رحل قبله شهور وأعوام، ولكن السؤال: هل تزودنا منه ليوم النشور؟! وتذكروا أن هذه الدنيا أيام معدودة، وأنفاس محدودة، ولا يدري متى الرحيل منها! فاستعد -يا عبد الله- وتزود ما دام في العمر فسحة، وعش يومك ولا يطل أملك؛ فإن الموت يأتي على غرة.
عباد الله، ها هو شهر رمضان الرصد لهلاله يرقبون، فكونوا له بصالح العمل متهيئين، فإنه شهر ليس له مثل في ســـــــــائر الشهور، الذنب فيـــــــــــه مغفور، والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور، والشيطـــــــــــــان مبعد مثبور، والوزر والإثــــــــم فيه مهجور، وقلب المؤمن بذكر الله معمور.
اللهم يا كريم يا رحمن بلغنا شهر رمضان، واجعلنا فيه من المعتقين من النار، اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، اجعلنا بفضلك وعونك ممن يصومه ويقومه إيمانًا واحتسابًا.
اجعلنا بعونك وتيسيرك من السبَّاقين إليك، المقربين لديك، ونعوذ بك أن نكون ممن التهى عن الدين، فكان من الخاسرين.
اللهم وفقنا لإدراكه ونحن في صحة وسلامة وأمن وأمان. اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
_______________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي
- التصنيف: