إيمانا واحتسابا
علي بن عبد العزيز الشبل
كيف يكون صومنا وقيامنا إيمانًا واحتسابًا؟ فاستعينوا بالله على ما بقي من شهركم، وحسنوا فيه نياتكم، ومقاصدكم، واعملوا لله، وارجوا ثوابكم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى...
- التصنيفات: أعمال القلوب - ملفات شهر رمضان -
أَيُّهَا المؤمنون! صام الصائمون، وتصدق المتصدقون، وقام وتهجد المتهجدون، وبادر المبادرون، وفي مقابلهم غفل الغافلون، وكثر نوم النائمين، حتى غفلوا عن هذا الشهر، فمضى عليهم كثيرٌ منه لم يستدركوه، ولم يستغلوا أيامه ولياله.
عباد الله! إن الله جَلَّ وَعَلا لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم ومقاصدكم، وليس العبرة عنده سبحانه بكثرة الأعمال، وإنما العبرة بأصوبها، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، ولم يقل: أكثر عملًا، وقيل لأبي عليٍ الفضيل بن عياض: "ما أحسن عملًا؟ قال: أخلصه وأصوبه".
عباد الله! صمتَ أيها الصائم، وقمتَ أيها القائم، وتصدقتَ وقرأتَ القرآن، ثم ماذا بعد ذلك؟ ما نيتك فيه وما قصدك؟ هل صيامك عادةً أم عبادة؟ هل تصدقك لأجل أن تُمدح أو محض قربةٍ تتقرب بها إلى ربك جَلَّ وَعَلا؟
ألا فاسمعوا أيها المخلصون، وتهنؤوا واهنؤوا أيها الموحدون، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت عنه هذا الحديث الأصل الجامع في فضل صيام رمضان وقيامه؛ ففي الصحيحين[1] من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»، زاد الإمام أحمد بإسنادٍ حسن: «غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» قاله الحافظ بن حجر.
نعم يا عباد الله؛ كيف يكون صومنا وقيامنا إيمانًا واحتسابًا؟ إنه الصيام والقيام المتمحَّض فيه العمل لله جَلَّ وَعَلا، وهو الموعود عليه الأجرُ العظيم والثواب الجزيل في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي سعيدٍ في الصحيحين[2]: «من صام يومًا في سبيل الله» نعم يا عباد الله، في سبيل الله «باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا»، وفي رواية[3]: «بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا»، فيكون صومك لله، هذا معنى (أن يكون في سبيله)؛ تبتغي مرضاته، لا حظ فيه لصيامك وعملك إلا ثوابه ووجهه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى.
وفي الحديث الصحيح المخرَّج في الصحيحين[4] عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: قال الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فهذا حديثٌ قدسي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه: «قال الله عَزَّ وَجَلَّ: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان؛ فرحةٌ عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه بثواب صومه»، فاللهَ اللهَ يا رعاكم الله، حققوا لله الإخلاص والتوحيد في صيامكم، وفي سائر عباداتكم، وانظروا ثواب الله ومدحته، ولا تلتفتوا إلى غير ذلك، لئلا يدخل عليكم الشيطان بأنواع المداخل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
الحمد لله الذي أعاد مواسم الخيرات على عباده تترا، فلا ينقضي موسمٌ إلا ويعقبه آخرُ مرةً بعد أخرى، وأصلي وأسلم على سيد البرية في الأولى وفي الأخرى نبينا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه أولي الفضل والنهى، ما طلع ليلٌ أقبل عليه نهارٌ وأدبر، أما بعد:
عباد الله! فاستعينوا بالله على ما بقي من شهركم، وحسنوا فيه نياتكم، ومقاصدكم، واعملوا لله، وارجوا ثوابكم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وكان الصيامُ بهذه المثابة؛ لأنه عملٌ تركي لا يعلم الناس أنك صائم حتى تُعْلِمهم بذلك، وهذا الصيام بهذه المثابة لا بد أن يهذب نفوسكم ويؤدب أقوالكم وأفعالكم، حتى إذا كان يوم صوم أحدكم فسابه أحدٌ فشاتمه فإنه يصون صيامه، يقول: اللهم إني صائم؛ أي أني أترفع وأتنزه أن أنزل إلى مستواك في الردى لما في الصيام من السمو والعلو، ورفعة صاحبه عند ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى.
[1] هذا الحديث عبارة عن حديثين: الأول: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدم من ذنبه) أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760)، والثاني: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه) أخرجه البخاري (2009)، ومسلم (759).
[2] أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153) إلا أن البخاري قال: (بعد الله).
[3] أخرجه البخاري (2840).
[4] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).