م. عبد المنعم الشحات يكتب: أسئلة (مفخخة) وأجوبة قاطعة!
عبد المنعم الشحات
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
أما بعد:
فيدور جدل واسع في الأوساط الإسلامية -الآن- حول طريقة التعامل المثلى مع أسئلة الإعلاميين المفخخة، (والسؤال المفخخ) هو: سؤال يطرحه شخص يعرف إجابتك عنه مسبقًا، وإنما يريد منك أن تجيب عنه (بعضمة لسانك) -كما يقولون في الأمثلة الشعبية- لأنه يتوقع أن إجابتك سوف تورطك مع طرف آخر، في الغالب هو الجمهور الذي يريد منه أن ينفض عنك وهو يرى أن إجابتك على هذا السؤال بعينه يمكن أن تؤدي إلى هذه النتيجة.
والناس في التعامل مع هذه النازلة على مذاهب:
فمنهم مَن يرى أن الحل هو: "أن تختفي هذه الأسئلة مِن الوجود" وهو حل جذري، ولكنه كما ترى لا يمكن أن يُسمى حلاً، وإنما هي أمنية أن يكف الإعلاميون عن سياسة تخويف الناس من الإسلاميين التي يتضح عند التأمل أن الغرض منها هو: تخويف الناس من الإسلام ذاته، وعلى أي.. فالأماني لا تملك لها إلا الدعاء، مع التعامل مع الواقع من حيث هو واقع.
ومِن الناس مَن يقول: "الحل هو مقاطعة الإعلام العلماني، والاكتفاء بالإعلام الإسلامي" وهو حل عملي قابل للتطبيق، ولكن فيه قدر من الانزواء والانسحاب لاسيما أن القطاع الأكبر من الناس، إما أنه لا يشاهد القنوات الإسلامية أصلاً، أو يشاهدها ويشاهد معها غيرها من القنوات التي إن قاطعها دعاة الحق فلن يتورعوا عن ذكرهم بالسوء مِن باب التورع عن (الغيبة) بل سوف يزدادون كذبًا وبهتانًا، والكذب في زمان الميديا الذي نعيشه كذب مؤيد بالأدلة صوت وصورة، وهذه الأدلة هي مقاطع مبتورة من سياقها، ولكن المشاهِد الذي يحاصره المذيع المؤيَّد بهذه النوعية من الأدلة، والمحاط بكوكبة من الباحثين لن يجد فرصة ليسأل نفسه هذا السؤال، لاسيما إذا كان المذيع يؤكد على أن حق الرد مكفول!
وقد جربتُ هذا بنفسي حينما اعترض شخص أظن فيه العقل والإنصاف على موقف نسبه إليَّ فقلتُ: "إن هذا الكلام محرف ومبتور" فأكد لي أنه سمعه بنفسه في مقطع فيديو، فسألته عن مدته؟ فأجاب: "أن مدته دقيقة تقريبًا" فسألته: ألم تشعر بالريبة من الشخص الذي اكتفى بعرض مقطع مدته دقيقة في موضوع معقد كهذا؟! فكأنه لم ينتبه إلا تلك اللحظة لهذه المصيدة!
وقد يقول قائل: "لا نقاطع الإعلام، ولكن نمتنع من الإجابة على الأسئلة التي مِن شأنها أن تثير بلبلة، لاسيما إذا كانت من فروع الشريعة وتفاصيلها" وربما أكَّد البعض وجهة نظره تلك بوجوب تقديم الأصول على الفروع، إلى آخر ذلك..، وأصحاب هذا المسلك لم ينتبهوا إلى أن صاحب السؤال قد أعد لهذه الحيلة عدته، بل إنه يتمناها ليعزف أنشودة الغموض والتقية، وخداع البسطاء!
ثم إن صاحب هذا الحل وكأنه تصور أن السؤال قد أتى عَرَضًا في موقف طارئ، ولكن حقيقة الأمر أنه منهج إبليسي قديم تتكرر تطبيقاته، وتتوالى أفراده، ومنه قول المشركين مستهزئين بحرمة الميتة: "أتأكلون ما ذبحتموه، ولا تأكلون ما ذبح الرب بيده..!" وأنزل الله في ذلك قرآنًا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]. مع أن المرحلة كانت مرحلة بناء عقدي، ومواجهة للفتن.
إذن فقائمة (الأسئلة المفخخة) قد تبتدئ بالموقف من الخمر والبكيني، ولكنها قد لا تنتهي إلا عند: "أحقـًّا تريدون تطبيق الشريعة الإسلامية ونحن في القرن العشرين؟!" وهو سؤال يُطرح -الآن- جنبًا إلى جنب مع الأسئلة التي ربما اتفق السائل والمسئول والمستمع على أنها لم تطرح إلا للتشغيب!
وقد حكى الله عن المشركين أنهم سألوا متعجبين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]. فإذا تبيَّن هذا، تبيَّن لنا: أن محاولة التهرب من الإجابة على أي سؤال مهما بدا أن ترتيبه متأخر في سلم أولوياتنا سوف ينتج عنها اتهام الإسلاميين بالمرواغة، لا سيما إذا كانت الإجابات على هذا السؤال مثبتة كتابة، بل صوتًا وصورة، والأخطر من هذا أنه سوف يوصل رسالة إلى جميع الأطراف أن في ديننا عورات يَجمُل سترها.
وهذا ما يستقر في الذهن إذا وجد من يؤكد على أننا لا يمكن أبدًا أن نأمر بمعروف أو ننهى عن منكر أو نغيره، وأصبح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» (رواه مسلم). معطلاً عن العمل، فبعد أن كنا نقول: "إنه للسلطان" صار البعض يريد أن يقول: "حتى ولو كان معنا السلطان فلن نغير المنكرات المجمع على نكرانها مع القدرة على ذلك، وعدم الموانع" اللهم إلا هوى أصحاب الأهواء!
مع أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأنها شأن كل الأحكام الشرعية في غاية الحسن والتمام، ولا يستقيم حال المجتمع إلا بها، وفرق بيْن أن تقول: "إنني لن أطبِّق شيئًا ما لعدم القدرة عليه" وبين أن تقول: "إنك لن تطبقه أصلاً" أو تقر بعدم صلاحيته عندما تتلعثم متى واجهوك به!
والذي نراه أننا ينبغي أن نجيب بأجوبة حاسمة واضحة على تلك الأسئلة المفخخة، على أن نجلي الأمور ونزيل الشبهات، ونحترز من الإلزامات الخاطئة، والاستنتاجات المريضة التي ربما حاول الخصوم أن يستنتجوها من كلامنا.
ولعل موقف جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع النجاشي يؤكد هذا المعنى حينما وُجِه بأسئلة مفخخة كانت الصراحة فيها تؤدي إلى قطع رقابهم، ومع هذا رفع جعفر -رضي الله عنه- شعار: "لا نقول إلا ما جاءنا به رسولنا كائنًا ما يكون".
وقد كان أن أمَّنهم الله، وإن كانوا سببًا في إلقاء بذرة الإيمان في قلب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- صاحب السؤال المفخخ، وفي قلب النجاشي الذي أريد له أن ينقلب عليهم عندما يسمع منهم قولهم في عيسى -عليه السلام- فألقى مقلب القلوب الإيمان في قلبه، بل أعلنه أمام السائل والمسئول على الفور.
نعم يبقى أن (الإعلام الفاجر) يمكن أن يتلقف الإجابة، وينقلها غلمانه على أرض الواقع مُشوهة، مستغلين أن شعبنا يتعامل مع الشائعات بنظرية: "مفيش دخان من غير نار" لاسيما إذا أسند الكذاب كذبه إلى حلقة كذا.. يوم كذا.. وهذا أمر لا تملك حياله إلا أن تتذكر قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
لاسيما أن الشائعات -وبخاصة التي تتعلق بالفكر- سرعان ما تنكسر، وتكون سببًا في انتشار حجة مَن أثيرت ضده، والشواهد على ذلك كثيرة..
والحمد لله رب العالمين.