زكاة الفطر: حكمها وحكمتها
فَلَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ – فِي خِتَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ – زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَهِيَ زَكَاةٌ عَنِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَلَيْسَتْ زَكَاةً عَنِ الْمَالِ، وَتُسَمَّى: الْفِطْرَةَ، وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ: فَلَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ – فِي خِتَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ – زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَهِيَ زَكَاةٌ عَنِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَلَيْسَتْ زَكَاةً عَنِ الْمَالِ، وَتُسَمَّى: الْفِطْرَةَ، وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ.
وَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَيَجِبُ أَنْ يُخْرِجَهَا الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهَا عَنِ الْجَنِينِ – إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَهُوَ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ؛ فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يُخْرِجُونَهَا عَنْهُ؛ كَمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ.
وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ – زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ لِقُوتِهِ، وَقُوتِ مَنْ يَعُولُهُمْ، وَزَائِدًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَهَمُّ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِشَرْطَيْنِ:
1- الْإِسْلَامُ، فَلَا تُجِبُ عَلَى الْكَافِرِ؛ لِقَوْلِهِ – فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ: «مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
2-وُجُودُ مَا هُوَ زَائِدٌ عَنْ قُوتِهِ، وَقُوتِ عِيَالِهِ، وَحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ.
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا: تُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ» حَسَنٌ – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. فَمِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
1- تَطْهِيرُ الصَّائِمِ مِمَّا يَحْصُلُ فِي صِيَامِهِ مِنْ نَقْصٍ، وَلَغْوٍ، وَإِثْمٍ.
2- إِغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ عَنِ السُّؤَالِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ؛ لِيَكُونَ الْعِيدُ يَوْمَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ لِجَمِيعِ فِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ.
3- الِاتِّصَافُ بِخُلُقِ الْكَرَمِ، وَحُبِّ الْمُوَاسَاةِ.
4- إِظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ بِإِتْمَامِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَقِيَامِهِ، وَفِعْلِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ.
وَالْوَاجِبُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ: صَاعٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ مِنْ بُرٍّ، أَوْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أُرْزٍ، أَوْ ذُرَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِدَلَالَةِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَمِقْدَارُ الصَّاعِ – بِالْوَزْنِ: "ثَلَاثَةُ كِيلُو" جِرَامَاتٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ الْأَحْوَطُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطِيَ الْجَمَاعَةُ زَكَاةَ فِطْرِهَا شَخْصًا وَاحِدًا، وَأَنْ يُعْطِيَ الْوَاحِدُ زَكَاةَ فِطْرِهِ جَمَاعَةً؛ كَمَا لَوْ أَعْطَى الصَّاعَ ثَلَاثَةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُلْثُ صَاعٍ.
وَلَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُ قِيمَةِ الطَّعَامِ نَقْدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ عِبَادَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ، فَلَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ الْمُعَيَّنِ، كَمَا لَا يُجْزِئُ إِخْرَاجُهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَلِأَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ يُخْرِجُ الْفِطْرَةَ عَنْ كَوْنِهَا شَعِيرَةً ظَاهِرَةً، إِلَى كَوْنِهَا صَدَقَةً خَفِيَّةً؛ فَإِنَّ إِخْرَاجَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ يَجْعَلُهَا ظَاهِرَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، مَعْلُومَةً لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، يُشَاهِدُونَ كَيْلَهَا وَتَوْزِيعَهَا، وَيَتَعَارَفُونَهَا بَيْنَهُمْ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ دَرَاهِمَ يُخْرِجُهَا الْإِنْسَانُ خُفْيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخِذِ).
وَوَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: غُرُوبُ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْفِطْرُ مِنْ رَمَضَانَ.
وَلِإِخْرَاجِهَا وَقْتَانِ:
1- وَقْتُ الْفَضِيلَةِ: فَهُوَ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى قُبَيْلِ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
2- وَقْتُ الْجَوَازِ: فَهُوَ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِفِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ كَانُوا «يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» (حَسَنٌ – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
وَتُصْرَفُ زَكَاةُ الْفِطْرِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، دُونَ بَقِيَّةِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ» (حَسَنٌ – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْصِيصُ الْمَسَاكِينِ بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَقْسِمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قَبْضَةً قَبْضَةً، وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ).
وَأَمَّا حُكْمُ نَقْلِ زَكَاةِ الْفِطْرِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ أَوْلَى بِصَدَقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ. كَمَا اتَّفَقُوا: عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ مَوْضِعِهَا – إِذَا اسْتَغْنَى أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَنِ الزَّكَاةِ كُلِّهَا، أَوْ بَعْضِهَا.
وَاخْتَلَفُوا: فِي حُكْمِ نَقْلِهَا – إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ مُسْتَحِقٌّ لَهَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ نَقْلُ الزَّكَاةِ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
الْقَوْلُ الثَّانِي: يُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ لِغَيْرِ قَرِيبٍ، وَأَحْوَجَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالرَّاجِحُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُوَزَّعَ الزَّكَاةُ فِي بَلَدِ جَمْعِهَا، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ الزَّكَاةِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَصْلِ. وَنَصَّ ابْنُتَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الزَّكَاةِ؛ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ.
فَلْنَحْرِصْ عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي وَقْتِهَا الشَّرْعِيِّ، طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُنَا، سَائِلِينَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا طُهْرَةً لَنَا، وَتَكْفِيرًا لِسَيِّئَاتِنَا.
- التصنيف: