في الحث على اغتنام ما بقي من شهر رمضان
فاغتَنِموا يا عباد الله ما بقي من شهركم وموسم التجارة الرابحة مع مَن لا يَضيع العملُ لديه، حافِظوا على الصلوات المفروضة مع الجماعة، وتزوَّدوا من النوافل المسنونة، وتأسَّوا بنبيِّكم في شهر مُضاعفة الأعمال.
فيا عباد الله، اتَّقوا الله - تعالى - واعلَمُوا أنَّكم في شهرٍ كريم وموسم عظيم ينبغي اغتِنامُ أوقاته والتشمير فيه عن ساعِد الجدِّ ومُضاعَفة الأعمال الصالحات قبل فَوات أوقاته، فقد مضَى منه ما مضى وفوَّت المفرط على نفسه أوقاتًا من عمره هي أغلى من الذهب والفضة، فلينتَبِه لنفسه، وليغتَنِم ما بَقِي من عمره وشهره؛ فما مضى لن يعودَ عليه، وقد سجَّل فيه القبيح والحسن، وغدًا يفتح الخزائن؛ فالمحسنون يجدون في خزائنهم العزَّة والكرامة، والمسيئون يجدون في خَزائنهم الحسرة والنَّدامة.
فاغتَنِموا يا عباد الله ما بقي من شهركم وموسم التجارة الرابحة مع مَن لا يَضيع العملُ لديه، حافِظوا على الصلوات المفروضة مع الجماعة، وتزوَّدوا من النوافل المسنونة، وتأسَّوا بنبيِّكم في شهر مُضاعفة الأعمال.
قال الله - تبارك وتعالى -: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية في الصائمين؛ وذلك أنَّه إذا كان يوم القيامة وبلَغ الناس من الكرب والغمِّ ما لا يعلَمُه إلا الله من العطَش والجوع والحرِّ قِيل للصائمين ذلك.
وعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلُّ عمَل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، قال الله -تعالى- إلا الصيام فإنَّه لي وأنا أجزي به؛ إنَّه ترك شَهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي».
فالصيام لا يعلَمُ ثوابَه إلا الله، وهذا من فضْل الله وكرمِه على هذه الأمَّة، فعلينا أنْ نغتَنِم أوقاتَ هذا الشهر العظيم من صِيامٍ ومحافظةٍ عليه، وصلاةٍ مفروضة ونوافل وذكر لله، وسؤال الجنَّة والاستعاذة من النار، وإطعام الطعام والإحسان إلى الفُقَراء والأيتام، وبذل المعروف والإنفاق في طرق الخير... وغير ذلك ممَّا حَثَّ عليه نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - بأقواله وأفعاله.
في الصحيحين عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أجوَدَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يَلْقاه جبريل فيُدارسه القُرآن، وكان جبريل - عليه السلام - يَلْقاه كلَّ ليلة من رمضان فيدارسه القُرآن، فلَرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين يَلقاه جبريل أجوَدُ بالخير من الرِّيح المرسلة))[1].
وفي الصحيحين عن أنس - رضِي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان جُوده - صلى الله عليه وسلم - بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله -تعالى- في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكلِّ طريقٍ؛ من طعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمُّل أثقالهم.
فينبغي التأسِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلنا فيه أسوةٌ حسنة، كما أنَّه - صلى الله عليه وسلم - يُضاعف عمله في العشر الأخير من رمضان طلبًا لليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، فكان إذا دخَل العشر شدَّ مِئزَره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.
ففي الصحيحين عن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتَكَف أزواجه من بعده[2].
فاجتهدوا يا عباد الله فيما بقي من شهركم؛ فإنَّ لمواسم الخيرات اغتنامًا، وابذلوا من أموالكم للفُقَراء والمساكين ما وجب عليكم من زَكاة، وأنفِقوا ممَّا رزقكم الله من الصدقات والإحسان إلى المحتاجين وفي المشروعات والطرق الخيريَّة في هذا الموسم العظيم الذي تُضاعف فيه الحسنات، فأفضل الصدقة صدقةٌ في رمضان.
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن فطَّر صائمًا فله مثلُ أجره من غير أنْ ينقص من أجر الصائم شيءٌ»[3].
فهذا من فضل الله الذي ينبغي اغتنامُه والتنافُسُ فيه.
فاتَّقوا الله يا عباد الله في أنفُسكم وفيمَن تحت أيديكم من الأهل والأولاد، عوِّدوهم على حبِّ الخير واغتنام أوقاته، والبذل والإنفاق فيما يعود عليكم وعليهم بالسعادة في الدنيا والآخِرة، راقِبوهم في هذه الأيَّام والليالي، عوِّدوهم على الصوم قبل التكليف حتى يَألَفوه، وعلى الصلاة وكثْرة النوافل حتى تسهُلَ عليهم عند التكليف، وتأمَنوا عُقوبات إهمالهم، لا تتركوهم على اللهو والمجون والسهر على ذلك طوال الليل، حتى إذا قارب أحدهم الفجر ملأ بطنه ونام عن الصلاة المفروضة، حبِّبوا إليهم إنفاقَ المال في طرق الخير، ولا تُعوِّدوهم على شراء آلات اللهو وأشرطة الفسق والمجون فإنَّكم بذلك تكونون قد أعَنتُموهم على الباطل وأضعتم أمانتكم وجنيتم على فلذات أكبادكم وأنتم مسؤولون ومحاسبون، كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته.
فاتَّقوا الله يا عباد الله في أوقاتكم، وفي أماناتكم وفي أموالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
قال الله العظيم: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 15-16].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
[1] أخرجه البخاري رقم (6) - الفتح: 1/40، ومسلم (2308).
[2] أخرجه البخاري رقم (2026) - الفتح: 4/318، ومسلم (1172).
[3] أخرجه الترمذي (807) وأحمد في المسند (4/114) وابن ماجه (1746)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الأرناؤوط: وهو كما قال، انظر: جامع الأصول (9/459).
- التصنيف: