فاستقم كما أمرت ..
أما جميع أصول الخير والمعروف فدل عليها قول الله تعالى ﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ }
أيها الإخوة الكرام: ورد في الشمائل النبوية ، وفي الصفة الخِلْقية للنبي عليه الصلاة والسلام أن الشيب عجّل عليه حتى رُؤى في رأسه عليه الصلاة والسلام وفي لحيته ..
وعَنْ قَتَادَةَ رحمه الله قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه : ««هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ ، إِنَّمَا كَانَ شَيْبًا فِي صُدْغَيْهِ ، وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ ، خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ»» .
وفي حديث جَابِر بْن سَمُرَة رضي الله عنه، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ، فَقَالَ:
««كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْبٌ ، وَإِذَا لَمْ يَدْهِنْ رُئِيَ مِنْهُ»» .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
««إِنَّمَا كَانَ شَيْبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ»» .
ورد أن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب هذا الشيب الذي أصاب لحيته ورأسه قبل أوانه فقال عليه الصلاة والسلام «قَدْ شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا».
وفي رواية قال «شَيَّبَتْنِي هُودٌ ، وَالْوَاقِعَةُ ، وَالْمُرْسَلَاتُ ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ».
اشتعلت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم شيباً لأنه قرأ هذه السور وتدبرها وتفاعل مع معانيها فأفزعته وخوفته لما فيها من ذكر الآخرة ولما فيها أهوال القيامة ، ولما فيها من قصص الأولين الذين كفروا بالله تعالى فأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ..
« هُودٌ ، وَالْوَاقِعَةُ ، وَالْمُرْسَلَاتُ ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»
هذه السور ولها في القرآن الكريم أخوات وأخوات كالحاقة والمعراج والقارعة وغيرهم كثير خوّفت رسول الله وأفزعته لما فيها من الوعيد ولما فيها من ذكر الأمم ، وما حل بهم من عاجل بأس الله عز وجل ، فأهل اليقين إذا تلوا هذه السور ومروا بهذه الآيات استحضروا أمام أعينهم وفي قلوبهم من ملك الله تعالى وسلطانه وعظمته وقدرته وقاهريته وشدة بطشه بأعدائه ، ما لو ماتوا من الفزع لحق لهم ، ولكن الله تعالى يلطف بهم ..
والفزع يورث الشيب :
ولذلك ورد في ذكر يوم القيامة قول الله تعالى {﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيبًا ﴾}
وذلك أن الفزع يُذْهل النفسَ فيجفف الفزع رطوبة الجسد ، وتحت كل شعرة منبع من ماء ، ومنه الإنسان يعرق ، فإذا جفف الفزع رطوبة الجسد يبست المنابع ويبس الشعر واشتعلت الرأس شيباً .
كما ترى الزرع الأخضر إنما يبقى على خضرته بسقائه ، فإذا جف سقاؤه يبس وصار حطاماً .
أما سورة هود :
فهى أول ما شيبت آياتها رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولعل أبرز ما في هذه السورة آية تقول :
{﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا۟ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾}
قال ابن عباس : « ما نزلت آيةٌ أشدُّ من هذه الآية ولا أشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم »
قال الحسن البصري : لما نزلت هذه الآية { ﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا۟ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } } ق «ال النبي عليه الصلاة والسلام للناس: (شمروا، شمروا)، وما رُئي رسول الله بعدها ضاحكاً» .
من الآيات الفريدة في القرآن الكريم هذه الآية : {﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا۟ ۚ }}
ثمان كلمات فقط جمعت بين الأمر بجميع أصول الخير والمعروف ،وجمعت بين النهي عن جميع أصول الشر والفساد ...
أما جميع أصول الخير والمعروف فدل عليها قول الله تعالى {﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ }}
وأما جميع أصول النهي عن الشر والفساد فدل عليها قوله تعالى {{وَلَا تَطْغَوْا۟ ۚ}}
فكانت الآية الكريمة بذلك جامعة لإقامة المصالح ولدرء المفاسد .. ومن هنا كانت هذه الآية أشد آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رؤى بعدها ضاحكاً حتى توفاه الله عز وجل ..
{﴿ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا۟ ۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }}
أما الاستقامة :
فهى في أبسط معانيها .. أن تلزم أمر الله عز وجل ، أن تأتمر بأمر الله ، أن تنتهي عما نهى الله عنه ، أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، أن تقيم الصلاة المكتوبة ، وأن تؤدي الزكاة المفروضة ، وأن تصوم رمضان ، وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً..
الاستقامة : في أبسط معانيها أن تعلموا أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وأن الله تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وأن الله تعالى حرم أموراً فلا تنتهكوها ، وأن الله تعالى سكت عن أمور رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها ..
قال سُفْيانَ بنِ عبد اللَّه الثقفي رضي اللَّه عنه : « قُلْتُ: يا رسول اللَّهِ قُلْ لِي في الإِسلامِ قَولاً لا أَسْأَلُ عنْه أَحداً غيْركَ. قال: «قُلْ: آمَنْت باللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ»»
في رواية أخرى ثنّى سفيان بن عبد الله الثقفي سؤاله فقال : «يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قال فَأَخَذَ رسول الله بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذَا»» .
الاستقامة أن تحفظ لسانك ، أن تغض بصرك ، أن تنزه سمعك ،أن تحفظ الرأس وما وعى ، وأن تحفظ البطن وما حوى ، الاستقامة أن يكون لك وجه واحد فقط ، وأن يكون لك لسان واحد فقط ..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة، أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الثبات في الأمر ، والعزيمة في الرشد ، ونسأله سبحانه موجبات رحمته وعزائم مغفرته إنه ولي ذلك والقادر عليه..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن استقامة المؤمن أن نقول :
إن من أعلى وأرقى دلائل الإستقامة أن تعمل الصالحات وتثبت عليها ، أن تسعى إلى الخيرات وتداوم عليها ..
ورد فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله {{سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ }}
لن يذهب الصيام بذهاب رمضان ، ولن يرحل القيام برحيل رمضان ، ولن يغيب القرآن بغياب رمضان..
من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات .. ومن كان يعبد الله فإن الله تعالى حيٌ لا يفوت ولا يموت قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام {﴿ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾ } قال المفسرون وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته..
ومن الصالحات التي دعينا إليها قيام الليل لا في رمضان فقط بل في عموم العام فعن إياس بن معاوية المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا بد من صلاة بليل ولو حلب شاة، وما كان بعد صلاة العشاء فهو من الليل»
ومن آكد أيام الصيام التي دعينا إليها صيامُ ستٍ من شوالٍ مجتمعاتٍ أو متفرقاتٍ فالشهرُ كله محلٌ لصيامهنّ ، وأعظم أثر لأيام الصيام تطوعاً صيام ستٍ من شوالٍ قال النبي عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَامَ رَمَضانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الثبات في الأمر ، والعزيمة في الرشد ، ونسأله سبحانه موجبات رحمته وعزائم مغفرته إنه ولي ذلك والقادر عليه..
- التصنيف: