مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال
مضى رمضان وانقضى معلنًا هذه الحقيقة التي غفلنا عنها أو تغافلناها، نسيناها أو تناسيناها، ألا وهى أن كل حبيب لابد أن يفارق حبيبه، وكل صديق لابد أن يفارق صديقه
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: ابن آدم! انقضى عام من عمرك، ويوشك عمرك كله أن ينقضي، فأنت لا تدري هل تعيش حتى يأتي عليك رمضان آخر أم لا.
فيا سعادة من وُفِّق إلى اغتنام الأوقات واللحظات فيما يُرضي ربُّ الأرض والسماوات.
مضى رمضان وانقضى معلنًا هذه الحقيقة التي غفلنا عنها أو تغافلناها، نسيناها أو تناسيناها، ألا وهى أن كل حبيب لابد أن يفارق حبيبه، وكل صديق لابد أن يفارق صديقه، الحقيقة التي تغافل عنها الغافلون، وشُغل عن الاتعاظ بها معظم الخلق إلا من رحم الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26]، فكل من على هذه الحياة منصرفٌ عنها مفارق لها عاجلًا أو آجلًا؛ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30 ]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].
وقال عليه الصلاة والسلام: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك» [1].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من أحسست بلذة الصيام وحلاوته، ليس الصيام خاصًّا برمضان، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام يومًا في سبيل الله، جعل الله بينه وبين النار خندقًا، كما بين السماء والأرض» [2]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله وجهه من جهنم سبعين عامًا» [3].
ومن الأيام التي يُستحب صيامها: الستة من شوال، ويوم عرفة وعاشوراء وتاسوعاء والأيام البيض، والاثنين والخميس، والصيام في شهر الله المحرم، وفي شعبان، وصيام التسع الأول من ذي الحجة.
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من شعرتم بلذة القيام وحلاوته، ليس القيام خاصًّا برمضان؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله رجلًا قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحِم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء» [4].
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لَما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، انجفل الناس إليه[5]، وقيل: قدم رسول الله، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذابٍ، فكان أول شيء تكلم به أن قال: «يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» [6].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من شعرت بلذة القرآن وحلاوته في رمضان، ليس القرآن خاصًّا برمضان، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ﴿ الم ﴾ حرف ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» [7].
وقال صلى الله عليه وسلم: «يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حَلِّه فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده فيُلبس حُلَّةَ الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيُقال له: اقرأ وارقَ، وتُزاد بكل آية حسنة» [8].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من ذقتَ لذة الذكر في رمضان، ليس الذكر خاصًّا برمضان.
بل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم أو يضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله تعالى» [9].
فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله[10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يُرَدُّ الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرًا، والمظلوم والإمام المقسط» [11].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من أحس بلذة الجماعة، وحلاوة الخطى إلى المساجد في رمضان، ليس ذلك خاصًّا برمضان؛ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة -قال: أحسبه قال في المنام- فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت لا، فوضع يده بين كتفَي، حتى وجدت بردها بين ثدييَّ -أو قال في نحري- فعلمتُ ما في السماوات وما في الأرض، قال: يا محمد، هل تدري فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات، والكفارات: المكث في المسجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره» [12].
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: «من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نزلًا كلما غدا أو راح» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يتوضأ أحدكم فيحسن الوضوء ويُسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته» [13].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا من يقلعون عن الذنوب والمعاصي والآثام في رمضان، ثم يعودون إليها بعده، إن رب رمضان هو رب سائر العام، فمن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولْى، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت.
هل تعلم أن المعاصي سبب سواد القلب وظلمته وقسوته، وقد تؤدي إلى موته ونهايته؛ كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
هل تعلم أن المعاصي سببُ تعسير الأمور، ومحق البركة وضيق الرزق؛ قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]؟
هل تعلم أن المعاصي سبب نزول البلايا والمصائب؛ قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، فلا ينزل البلاء إلا بذنب، ولا يُرفع إلا بتوبة، وإذا كثُر المذنبون نزل البلاء العام الذي لا يرفعه إلا العود العام إلى شريعة الله؛ سُئل عليه صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثُر الخبث[14].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: أين أنت يا أمة الله من الحجاب؟، هل شعرت بلذة الحجاب وحلاوته في رمضان؟
هل شعرت بلذة الستر والعفاف؟
هل شعرت بلذة الطاعة وانشراح الصدر بها؟
هل شعرت بلذة الاحتشام والأمن من المعاكسات؟
لا تفرِّطي في هذه النعمة بعد رمضان.
وإياك أن تكوني من هؤلاء الذين قال فيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أهل النار لم أرهما:..... ونساءٌ كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البُخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» [15].
مضى رمضان وانقضى، ولو نطق لقال: ليس العيد لمن لبس الجديد ولكن العيد لمن طاعاته تزيد، العيد هو موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا، إنما هو بمولاهم إذا فازوا بإكمال طاعاته وحازوا ثواب أعمالهم، بثقتهم بوعده لهم عليها بمغفرته وفضله؛ كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
مضى رمضان وانقضى ولو نطق لقال: يا أمة الاسلام، فلتفرَحوا بالعيد ولتوسعوا على أولادكم، ولتُدخلوا البهجة عليهم، ولكن لا تَنسَوا آلام أُمتكم....
وأبشروا فإن الليل مهما طال، فلابد من طلوع الفجر، والصبر كلما طال عظُم الأجر.
أبشروا فإن الله تعالى وعد هذه الأمة بالنصر والتمكين إن حقَّقوا الإيمان وعادوا إلى الرحمن؛ كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55].
فما علينا إلا أن نعود لديننا، ونرجع إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا، ننهل من مَعِينهما ونتفيَّأ ظلالهما، وننقاد لأحكامهما ففيهما النجاة والسعادة.
[1] رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[2] رواه الترمذي وصححه الألباني
[3] رواه النسائي وصححه الألباني.
[4] رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني.
[5] ذهبوا مسرعين.
[6] رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
[7] صحيح سنن الترمذي.
[8] صحيح الجامع.
[9] رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه الألباني.
[10] رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع.
[11] رواه البيهقي وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
[12] صحيح الترمذي.
[13] رواه ابن خزيمة في صحيحه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[14] متفق عليه.
[15] رواه مسلم.
_____________________________________________________________
الكاتب: د. شريف فوزي سلطان
- التصنيف: