وجوب تسوية الصفوف في الصلاة
عَن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ»؛ وفي رواية للبخاري: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ».
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - فقه الصلاة -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع هدْيَه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
لقد أولى الإسلام صفوف المصلِّين عنايةً كبيرةً؛ حيث أمر بتسوية الصفوف، وأظهر فضيلة تسويتها، والاهتمام بها.
• فعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ»؛ (رواه البخاري (690) ومسلم (433)، وفي رواية للبخاري (723): «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ».
• وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا، وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ»؛ (رواه مسلم (432).
• وعن النُّعْمَانَ بْن بَشِيرٍ رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِن الصَّفِّ، فَقَالَ: «عِبَادَ اللَّهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»؛ (رواه البخاري (717) ومسلم (436).
• قال النووي في "شرح مسلم": "قَوْله: ((يُسَوِّي صُفُوفنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاح)). الْقِدَاح هِيَ خَشَب السِّهَام حِين تُنْحَت وَتُبْرَى، مَعْنَاهُ: يُبَالِغ فِي تَسْوِيَتهَا حَتَّى تَصِير كَأَنَّمَا يُقَوِّم بِهَا السِّهَام؛ لِشِدَّةِ اسْتِوَائِهَا وَاعْتِدَالهَا"؛ انتهى.
• فهذه النصوص واضحة في وجوب تسوية الصفوف، قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب إثم من لا يتم الصفوف)، وأورد فيه بسنده عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ»؛ (رواه البخاري (724).
• قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": "يحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: «سوُّوا صفوفكم»، ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ومن ورود الوعيد على تركه، فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاةُ من خالف ولم يسوِّ صحيحة؛ لاختلاف الجهتين، ويؤيد ذلك أن أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة"؛ انتهى.
• قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله: ((أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ))؛ أي: بين وجهات نظركم حتى تختلف القلوب، وهذا بلا شكٍّ وعيدٌ على مَن تَرَكَ التسويةَ؛ ولذا ذهب بعضُ أهل العِلم إلى وجوب تسوية الصَّفِّ، واستدلُّوا لذلك: بأمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم به، وتوعُّدِه على مخالفته، وشيء يأتي الأمرُ به، ويُتوعَّد على مخالفته لا يمكن أن يُقال: إنه سُنَّة فقط.
• ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوب تسوية الصَّفِّ، وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية" انتهى، "الشرح الممتع" (3/ 6).
وتسوية الصف الواجبة هي ألا يتقدم أحد على أحد، لا بصدره، ولا بكعبه.
• قال في عون المعبود": "وَالْمُرَاد بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوف: اعْتِدَال الْقَائِمِينَ بِهَا عَلَى سَمْت وَاحِد"؛ انتهى.
• وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد، وهل المعتبر مُقدَّم الرِّجْلِ؟
الجواب: المعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن...وإنما اعتُبرت الأكعب؛ لأنها في العمود الذي يَعتمد عليه البدنُ، فإن الكعب في أسفل السَّاق، والسَّاقُ هو عمودُ البَدَن، فكان هذا هو المُعتبر. وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف، فبعض الناس تكون رِجْلُه طويلة، وبعضهم قصيرة؛ فلهذا كان المعتبر الكعب.
• وهناك تسوية أخرى بمعنى الكمال؛ يعني: الاستواء بمعنى الكمال، كما قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]؛ أي: كَمُلَ، فإذا قلنا: استواءُ الصَّفِّ بمعنى كماله، لم يكن ذلك مقتصرًا على تسوية المحاذاة، بل يشمَل عِدَّة أشياء:
1 - تسويةَ المحاذاة، وهذه على القول الرَّاجح واجبة، وقد سبقت.
2 - التَّراصَّ في الصَّفِّ، فإنَّ هذا مِن كماله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك، ونَدَبَ أمَّتَهُ أن يصفُّوا كما تصفُّ الملائكةُ عند ربِّها، يتراصُّون ويكملون الأول فالأول، ولكن المراد بالتَّراصِّ ألَّا يَدَعُوا فُرَجًا للشياطين، وليس المراد بالتَّراص التَّزاحم؛ لأن هناك فَرْقًا بين التَّراصِّ والتَّزاحم؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب... ولا تذروا فُرُجَات للشيطان»؛ أي: لا يكون بينكم فُرَج تدخل منها الشياطين؛ لأن الشياطِين يدخلون بين الصُّفوفِ كأولاد الضأن الصِّغارِ؛ من أجل أن يُشوِّشوا على المُصلِّين صلاتَهم.
3 - إكمالَ الأول فالأول، فإنَّ هذا مِن استواءِ الصُّفوف، فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول، ولا يُشرع في الثالث حتى يَكمُلَ الثاني وهكذا، وقد نَدَبَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى تكميل الصفِّ الأول فقال: «لو يعلم الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ، ثم لم يجدوا إلا أن يَسْتَهِمُوا عليه لاسْتَهَمُوا»، يعني: يقترعون عليه؛ فإذا جاء اثنان للصفِّ الأول، فقال أحدهم: أنا أحقُّ به منك، وقال الآخر: أنا أحقُّ، قال: إذًا نقترعُ، أيُّنا يكون في هذا المكان الخالي.
ومِنْ لَعِبِ الشيطان بكثير من الناس اليوم: أنهم يرون الصفَّ الأول ليس فيه إلا نصفُه، ومع ذلك يشرعون في الصفِّ الثاني، ثم إذا أُقيمت الصلاة، وقيل لهم: أتمُّوا الصفَّ الأول، جعلوا يتلفَّتون مندهشين!
4 - ومِن تسوية الصُّفوف: التقاربُ فيما بينها، وفيما بينها وبين الإِمام؛ لأنهم جماعةٌ، والجماعةُ مأخوذةٌ مِن الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التباعد، فكلما قَرُبَت الصُّفوفُ بعضها إلى بعض، وقَرُبَت إلى الإِمام كان أفضل وأجمل، ونحن نرى في بعض المساجد أنَّ بين الإِمام وبين الصَّفِّ الأول ما يتَّسع لصفٍّ أو صفَّين؛ أي: إنَّ الإِمام يتقدَّم كثيرًا، وهذا فيما أظنُّ صادر عن الجهل، فالسُّنَّةُ للإمام أن يكون قريبًا مِن المأمومين، وللمأمومين أن يكونوا قريبين مِن الإِمام، وأن يكون كلُّ صفٍّ قريبًا مِن الصَّفِّ الآخر.
وحَدُّ القُرب: أن يكون بينهما مقدار ما يَسَعُ للسُّجودِ وزيادة يسيرة.
5 - ومِن تسوية الصُّفوفِ وكمالها: أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِنِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى» وكلَّما كان أقربَ كان أَولى، ولهذا جاء الحثُّ على الدُّنوِّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة؛ لأن الدُّنوَّ مِن الإِمام في صلاة الجُمعة يحصُل به الدُّنُو إليه في الصَّلاةِ، وفي الخطبة، فالدُّنُو مِن الإِمام أمرٌ مطلوب، وبعضُ الناس يتهاون في هذا ولا يحرِصُ عليه.
6 - ومِن تسوية الصُّفوف: تفضيل يمين الصفِّ على شماله، يعني: أنَّ أيمن الصَّفِّ أفضل مِن أيسره، ولكن ليس على سبيل الإِطلاق؛ كما في الصَّفِّ الأول؛ لأنه لو كان على سبيل الإِطلاق، كما في الصف الأول؛ لقال الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «أتمُّوا الأيمن فالأيمن» كما قال: «أتمُّوا الصَّفَّ الأول، ثم الذي يليه». وإنما يكون يمين الصف أفضل من يساره إذا تساوى اليمينُ واليسار أو تقاربا، كما لو كان اليسار خمسة واليمين خمسة، وجاء الحادي عشر؛ نقول: اذهبْ إلى اليمين؛ لأنَّ اليمين أفضلُ مع التَّساوي، أو التقارب أيضًا؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصَّفِّ ويسارِه، أما مع التَّباعد فلا شكَّ أنَّ اليسار القريبَ أفضل من اليمين البعيد، ويدلُّ لذلك: أنَّ المشروع في أول الأمر للجماعة إذا كانوا ثلاثة أن يقف الإِمام بينهما؛ أي: بين الاثنين، وهذا يدلُّ على أن اليمينَ ليس أفضلَ مطلقًا؛ لأنه لو كان أفضلَ مطلقًا؛ لكان الأفضل أن يكون المأمومان عن يمينِ الإِمامِ، ولكن كان المشروعُ أن يكون واحدًا عن اليمين وواحدًا عن اليسار حتى يتوسَّط الإِمام، ولا يحصُل حَيْفٌ وجَنَفٌ في أحد الطرفين.
7 - ومِن تسوية الصُّفوفِ: أن تُفرد النِّساءُ وحدَهن؛ بمعنى: أن يكون النِّساءُ خلف الرِّجال، لا يختلط النِّساء بالرِّجال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ صُفوفِ الرِّجَالِ أوَّلُهَا، وشرُّها آخِرُها، وخيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها، وشرُّها أوَّلُها» فبيَّن عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كلما تأخَّرت النِّساءُ عن الرِّجالِ كان أفضلَ.
• إذًا الأفضلُ أن تُؤخَّر النِّساءُ عن صفوفِ الرِّجَالِ؛ لما في قُربهنَّ إلى الرِّجَال مِن الفتنة. وأشدُّ مِن ذلك اختلاطُهنَّ بالرِّجال، بأن تكون المرأةُ إلى جانب الرَّجُلِ، أو يكون صَفٌّ مِن النِّساءِ بين صُفوفِ الرِّجَال، وهذا لا ينبغي، وهو إلى التَّحريمِ مع خوف الفتنة أقربُ.
• ومع انتفاء الفتنة خِلافُ الأَولى؛ يعني: إذا كان النِّساءُ مِن محارمه فهو خِلافُ الأَولى، وخلاف الأفضل"؛ "الشرح الممتع" (3/ 7-13) باختصار.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
______________________________________________________________
الكاتب: الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري