السياسة العربية..طالق طالق طالق
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
ما إن تنطلق القاطرة الإخبارية يومياً تجوب الأرض من أقصها إلى أقصاها، إلا وتغيب عن المشهد الإخباري الكثير من الدول التي انشغلت بالتنمية، فلا تكاد تسمع في شريط الأخبار نبأ عن اليابان أو ماليزيا أو تايوان... إلا في النذر اليسير، وما إن تقترب قاطرة الأخبار من المنطقة الإسلامية عامة والعربية خاصة إلا وتشهد حالة من الغليان منقطعة النظير، فباكستان مشتعلة، وأفغانستان تتهاوى، والعراق ضاعت، ولبنان تكاد لا تتفق أطيافها على كلمة، وفلسطين جرح نازف مزمن، وسوريا غارقة في أنهار دم، واليمن تنهار، ومصر لا تهدأ، والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب...
معقولة ما يحدث من غليان وهيجان وفلتان؟! ولماذا كل هذا يحدث.. وتلك البانوراما المأساوية ليست وليدة الساعة، بل هي اضطرابات مزمنة نعاني منها منذ سنوات مديدة، ولا شيء من الانفراجة يلوح في الأفق، ولا نخرج بنتيجة إيجابية من كل هذه الحراكات، ولا سياسة حكيمة تضعنا على بدايات طريق التنمية.. ثم ما إن تكاد القاطرة الإخبارية تتجاوز المنطقة حتى تعود لها سكينتها، فدول أوروبا والأمريكيتين شغلها البناء كما شغل باقي دول الجناح الشرقي من الكرة الأرضية.
والأعجب أن القنوات الإخبارية العربية تتلقف هذه الأحداث بنوع من المبالغة والتهويل، وتتبنى في غالبها سياسة النفخ في النهار، وكأنها تبحث -في زمن الإفلاس الإعلامي العربي- عن مادة مثيرة تجذب بها آلاف المشاهدين الساذجين.. فهذا يفند وذاك يحلل وآخر يحاور ويناور، ولا تخلو خارطة الإعلام الكلامي من منتقد أو مقترح أو متفائل أو متشائم، في سوق لا تملك غير العبارات والثرثرة والقيل والقال، من قبل تجار برعوا في المناورات الكلامية التي تلعب على المشاعر لا أكثر ولا أقل، فلا كاميرا ترصد إنجازا يذكر، ولا رسالة بناء أو خطط إستراتيجية تتبناها جهة إعلامية محترمة، تشحذ بها الهمم لتحسين أحوالنا والخروج من معاناتنا، حتى وصل الأمر أن سئم المشاهد العربي من تلك القنوات، وفقد ثقته بالسياسة وصناعها، والتي لم تخرجه يوما من نفقه المظلم التي يعيش فيه منذ عشرات السنين.
فكيف لأي عاقل أن يقتنع بقبول سوريا مبادرة الجامعة العربية بنشر مراقبين على أراضيها للخروج من الأزمة الحالية.. هذا التوقيع الذي تم بعد سقوط أكثر من خمسة آلاف شهيد غير الجرحى والمصابين والمشردين، فلقد رحبت الجامعة العربية بالتوقيع وكأنه سيبعث الموتى من قبورهم ويشفي الجرحى من كلمهم، رغم أن يوم التوقيع نفسه كشف (المرصد السوري لحقوق الإنسان) عن مقتل عشرات الجنود السوريين المنشقين جراء إطلاق النار عليهم لدى فرارهم من مراكزهم في منطقة جبل الزاوية في محافظة إدلب، ونقل المرصد عن جندي منشق قوله: إن "الجنود المنشقين تعرضوا لإطلاق نار من رشاشات متوسطة لدى فرارهم من مراكزهم العسكرية على الطريق بين بلدتي كنصفرة وكفرعويد بجبل الزاوية". وقدر الجندي -الذي أصيب هو أيضًا بجروح- عدد القتلى بما بين ستين وسبعين جندياً، مشيرًا إلى أن "السلطات السورية سحبت جثامين الجنود المنشقين".
ومن جانبها، أكدت الهيئة العامة للثورة السوريّة مقتل 72 جنديا منشقا في محافظة إدلب، وذكرت أن قوات الأسد نفذت ما وصفه بمجزرة كبيرة قتل فيها 72 منشقا في كنصفرة بإدلب وقامت بسحب جثثهم للتخلص منها وإخفائها. وأضافت أن ثمانية منشقين آخرين بينهم ضابط برتبة مقدم قتلوا برصاص الجيش في الحسكة، وسقط 34 قتيلا في كل من دمشق ودير الزور ودرعا وحماة والحسكة وحمص التي بدأت قوات الجيش حملة لتطويقها، حسب ما أكده الناطق الرسمي باسم قيادة المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية.. فهل هذا يا جهابذة السياسة العربية تصرف دولة تريد الخروج من الأزمة؟! أم إنه نوع من المراوغة السياسية لكسب الوقت، والحيلولة دون تصعيد الملف السوري لمجلس الأمن، خاصة وأن جيران سوريا مختلفون حول تطبيق العقوبات الاقتصادية، والمجتمع الغربي بقيادة الأمريكان لا يريد فعليا إسقاط نظام الأسد، والمغامرة بأمن إسرائيل، خاصة بعد صعود الإسلاميين في تونس ومصر بعد الثورة.
وفي العراق يحتفل صناع السياسة هذه الأيام بخروج القوات الأمريكية بعد احتلال دام تسع سنوات.. فهل هذا تحرر أم انسحاب أم هزيمة؟ أو على الأقل خروج من مأزق كما يصفه أحد المحللين بقوله عن الأمريكان: "فهم يبحثون عن حل لمشكلة أمريكا في العراق، وليس لمشكلة العراق التي صنعتها أيديهم، لأن الكلفة العالية في الجانب البشري والاقتصادي التي أفرزتها الحرب (أكثر من تريليون دولار وأربعة آلاف قتيل وما يفوق الثلاثين ألف جريح)، لم يعد بإمكان المواطن الأمريكي تحملها أو القبول بها، كما أن انحدار الهيبة الأمريكية كقوة عظمى في العالم بسبب الكلفة السياسية والعسكرية والمعنوية، واختلال الموازين الإقليمية التي أفرزها الغزو والتي باتت تهدد مصالحها في المنطقة، لم يعد بإمكان الساسة الأمريكان القبول بها".
لقد دخلت أمريكا العراق بكذبة وخرجت منها بكذبة أخرى، وتركت عراقاً لا حراك فيه، قائماً على الطائفية والفقر، مفرغا من الكيان الفعلي للدولة (مليون ونصف قتيل، نصف مليون معاق ومشوه جسدياً، خمسة ملايين يتيم، مليون أرملة، خمسة ملايين مهجّر في الخارج والداخل، مدن وأحياء وقرى مدمّرة وبنى تحتية بحالة مذرية، انفصال الإقليم الكردي عن سائر أنحاء العراق ليصبح قاعدة أمريكية أو إسرائيل ثانية علنية).. فهل حقا تحرر العراق، أم أنه خرج من احتلال لاحتلال أشد جرما منه، احتلال طائفي من أبناء جلدته، عقدي (السنة/الشيعة)، وإقليمي (بغداد/أربيل)، احتلال ولاء قياداته حتى النخاع للأمريكان أكثر منه لأبناء شعبه، فالمعروف أن جميع الذين تسلموا السلطة في العراق منذ الاحتلال دخلوا على ظهور الدبابات الأمريكية، وكانوا يتنقلون خلال سنوات طويلة بين إيران وواشنطن ولندن والقاهرة ودمشق.
إن الولايات المتحدة لم تنسحب فعليا من العراق، بل فرضت وجودها الدائم فيه، وقد أشار (رون بول)، أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية، في مقابلة له مع قناة (سي إن إن) الأمريكية إلى أن هناك سبعة عشر ألف شخص باقون في العراق، نصفهم يعملون في السفارة الأمريكية، وهي كبرى السفارات الأمريكية في العالم، ونصفهم الآخر مما يسمون بالمتعاقدين، وهم بالفعل من المرتزقة الأمريكيين ومن جنسيات أخرى كانوا وما يزالون مسئولين عن عمليات القتل والتعذيب وتفجير السيارات، وسيحرصون على بقاء العراق في حالة فوضى دائمة وتشتت.
وفي مصر نرى سقوط حوالي عشرة من الشهداء ومئات الجرحى في الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الجيش، وحرق المجمع العلمي، وزيادة التوتر بين المجلس العسكري وقوى سياسية عديدة، بدأت تجاهر بشكوكها فيه وبأن ما حدث عملية مدبرة منه، لاتخاذها مبررا لإلغاء الانتخابات، وهذه الشكوك تتركز أساسا لدى الإخوان المسلمين والسلفيين، وقوى ليبرالية ترى أن المجلس يريد الاستمرار في الحكم وعدم تسليمه للمدنيين، وبينما آخرون يرون أن ما حدث مؤامرة تشارك فيها أطراف دولية وعربية وداخلية لإحداث وقيعة بين الجيش والشعب وإحباط الثورة، كما بدأت قوى سياسة وأعضاء مجلس شعب نجحوا في المرحلة الأولى من الانتخابات في القيام بدور في تهدئة الأوضاع، واستقال حوالي ثلث أعضاء المجلس الاستشاري.
هل عقمت الأمة العربية على أن تلد رجال صدق، وتركت حراك الأمور بيد أشباه الرجال، أين يا أمة العرب رجالك الذين يعدل الواحد منهم ألف رجل؟ أين أوفيائك وعلمائك وصناعك وتجارك.. الأفذاذ؟ أين محبي البناء لا عشاق الكلام؟
بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص -رضي الله عنهم جميعا- لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مددا، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة، قال عنهم عمر: كل واحد منهم بألف، واعتبر المجموع اثني عشر ألفا، ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة.
لقد كان عمر -رضي الله عنه- مؤمنا بأن العبرة بمعدن الرجال وهممهم لا بأعدادهم وأجسامهم.. فلقد روي عنه أنه كان جالسا يوما مع أصحابه في دار رحبة، فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دراهم من فضة أنفقها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكونا ماؤها ذهبا ينفقه في سبيل الله، أما عمر -رضي الله عنه- فقال: لكني أتمنى ملء هذه الدار رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة، فأستعملهم في سبيل الله.
وقد مدح أحد الشعراء الخليفة عبد الملك بن مروان بقوله:
فلام الشاعر، لأنه مدحه بما يشبه مدح الغيد الحسان، وقال له: هلا قلت في ما قاله الشاعر في مصعب بن الزبير:
حكمه حكم قوة ليس فيه *** جبروت منه ولا كبرياء
أين رجال الكيف لا الكم، رجال العمل والأمل، رجال العزم والهمم، أما بقي فينا غير حطام الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ومن يجيدون التحرك على كراسيهم فقط، والذين لا يحركون نملة، ولا يبنون لبنة.
قال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100].