من معالم الهدي النبوي الاهتمام بالناس
إن المتأمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن من معالم حياته الواضحة مع صحابته وأهله اهتمامه وعنايته البالغة بهم، فإذا سلكنا سبيله، وسرنا على نهجه؛ حققنا الأُلْفة بيننا بإذن الله...
- التصنيفات: فقه المعاملات - السيرة النبوية -
الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وخلق الزوجين الذكر والأنثى، وأرانا في خلقه وأمره شيئًا من عظمته، وأرانا في آياته ما يدل على وحدانيته، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنهى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الملتقى، أما بعد:
فالتقوى جماع الخير كله؛ لذا تكرر في القرآن والسنة الأمر بها، فهي سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والآخرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
عباد الله، حينما نتأمل في صدر الإسلام، نجد رسول الأنام عليه الصلاة والسلام استطاع بناء جيلٍ فريد فيه من اللُّحمة والتكاتف والقوة والوئام ما يصعب على اللسان وصفه.
فالنفس عند الصحابة محل النفس، وما المؤاخاة بين المهاجرين القادمين إلى المدينة مع الأنصار إلا خير دليل، فذا عبدالرحمن بن عوف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع أحد النقباء، فعرض سعد على عبدالرحمن أن يشاطره ماله، وأن يطلق له أحسن زوجتيه، فقال له عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، وكأني أشعر بما تشعر به، ويجول في خاطري ما يجول في خاطرك، ما لسبيل للعودة إلى ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام والصحب الكرام من اجتماع الأرواح والأفئدة والأبدان.
عباد الله، إن المتأمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن من معالم حياته الواضحة مع صحابته وأهله اهتمامه وعنايته البالغة بهم، فإذا سلكنا سبيله، وسرنا على نهجه؛ حققنا الأُلْفة بيننا بإذن الله، وذلك من خلال أمور منها:
1- إشعار من تحت يدك من زوجة وولد ببالغ رعايتك لهم، وعنايتك بهم معين للألفة في البيوت، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر أقبل على صحابته بوجهه قائلًا: «هل رأى أحد منكم رؤيا» ؟
في إشارة منه أن ما يشغلكم يشغلني حتى ما ترون في مناماتكم، وكان بالإمكان أن يخبرهم مرة واحدة بعلمه بتأويل الرؤى؛ ولكنها المبادرة، وتجديد العهد بالاهتمام، فيا ترى هل نشعر من حولنا باهتمامنا بهم؟ وكذا دقة ملاحظته لتغير حال من يخالطه، فحين رأى في ثوب عبدالرحمن بن عوف أثر صفرة وهو علامة طيب النساء قال له: «هل عرست» ؟)) قال: نعم، فقال: «أوْلِم ولو بشاة»، وهذه الملاحظة دليل على كمال الرعاية والاهتمام، وكذلك تفقد الغائب، فلقد سأل في غزوة تبوك عن كعب بن مالك حين تخلَّف.
2- ويتأكد الاهتمام في حال ضعف المتربي كحال مرض أو محنة مرت به؛ فلا بد حينئذٍ من تعزيز الاهتمام؛ ولذا شرعت عيادة المريض، وتعزية المصاب، وهذا رسول الله حين اشتكت عائشة يوم الإفك يسأل عنها، ويقول: «كيفَ تِيكُمْ».
ولما مرض ابن اليهودي الذي كان والده يضع الأذى في طريقه صلى الله عليه وسلم زاره، ودعا ابنه للإسلام، فأطاع الغلام أبا القاسم، فدخل دار السلام.
3- ملاحظة المتربي ودعمه وتشجيعه عند فعل الجميل والصواب، وغض الطرف عند الخطأ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال خير معلم للبشرية، وهادٍ للإنسانية: «لقد ظننت يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه».
ولو تأملت حال كثير من الناس اليوم لرأيت كثرة توبيخهم عند الخطأ؛ بل لربما كرر العتاب كثيرًا، ولقد قل تحفيزهم عند فعل الجميل والصواب زعمًا منهم أن هذا المفترض.
4- من دلائل الاهتمام الإخبار بمحبة من تحت يديك، فلها أثر السحر، فيا لسعادة معاذ لما قال له رسول الله: «يا معاذ، والله إني لأحبك»، فقال معاذ: وأنا يا رسول الله، والله إني لأحبك؛ كما صححه الألباني، فإذا أظهرت الاهتمام لمن تحت يديك شاع اهتمامه بك، فيا والدًا أظهر حبك واعتزازك بولدك تنل خيرًا كثيرًا.
5- الدعاء: فكم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبه، فما أعظم بركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس! حتى صار حبر الأمة وترجمان القرآن، فأسمعوا أولادكم دعواتكم، ولا تنسوهم في خلواتكم، لا سيما في أوقات اختباراتهم، فلكم عند الله دعوة مجابة فادخروها.
6- إنزال الناس منازلهم، فلقد قال عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجرَّاح».
7- ومما يدل على الاهتمام تلمس حاجة المتربي كل بحسبه، فهذا رسول الله يلاعب الأولاد ويلاطفهم، ويحسن تربيتهم، فيألفهم ويألفونه، فهذا ولد النبي صلى الله عليه وسلم يرتحله في صلاته، ولو لم يكن الطفل معتادًا على ملاطفة أبيه له، لما فعل ذلك، فالأطفال لا يعرفون المجاملات.
وهؤلاء الزوجات المكرمات أمهات المؤمنين والمؤمنات يؤانسهن، ويستمع لحديثهن، ويخبرهن بمعرفته لهن، وما ذاك إلا لعظيم عنايته بهن، فيخاطب زوجه عائشة ويقول: «إني لأعلم إن كنت عني راضية، أو كنت عني غضبى»، قالت: كيف؟ قال: ( «(إن كنت راضية قلت: لا وربِّ محمد، وإن كنت غضبى قلت: لا وربِّ إبراهيم»، فتقول: يا رسول الله، والله لا أهجر إلا اسمك، ويرخم أسماء نسائه ويقول: «يا عائش»، ويشرب من مكان شربها، ويغتسل معها، وينتصر للمظلومة منهن، فهذه صفية رضي الله عنها اشتكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامٍ بلغها عن عائشة وحفصة، وأنهن أكرم على رسول الله منها، فهن زوجاته وبنات عمه، فقال لها رسول الله: «ألا قلت: وكيف تكونين خيرًا وزوجي محمد نبي، وأبي هارون نبي، وعمي موسى نبي»، فكانت تفاخر بذلك.
7- ومما يدل على الاهتمام المشورة، والأخذ بها إن ظهر رجحان الرأي.
فلقد أخذ رسول الله برأي الحباب بن المنذر في غزوة بدرٍ، وغيَّرَ مكان معسكره، ونزل عند رأي شباب الصحابة في أُحُد، وأخذ بمشورة سلمان الفارسي في الخندق، وعمل برأي أم سلمة في الحديبية، ولا شك أن هذا مشعر بالاهتمام البالغ برأيهم، وهو بهذا العمل عامل بوصية الله له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
ومن دلائل اهتمام النبي بأمته حرصه على إدخال السرور على صحابته بالبشارة، ونحو ذلك فيخبر أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه بأن الله أمره أن يقرأ عليه: ﴿ {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، فيقول: أُبَيٌّ، وسمَّاني، قال: نعم، فبكى، وقال لبلال: «إني سمعت خشخشة نعليك في الجنة»، وأخبر الفاروق بأنه رأى قصره في الجنة، وبشَّر الصدِّيق بالدخول للجنة من كل الأبواب الثمانية:
هيهات أوفي القول في خيرِ الوَرَى ** من بعد ما صدعت بمدح نون
لكن أعيد القول فيه لعلَّنـــــــــــــي ** من تابعيه الفائزين أكـــــــون
عباد الله، الاهتمام دليل الحب والرعاية، وهو تفاعل في الغالب، يقول عبدالله بن زيد في حديث شرع الأذان: فاهتممت بما اهتمَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنبدأ بالأهل وذي القرابة، فأولادكم بحاجتكم، فتلمسوا حاجاتهم، فما أسوأ أن يطلب الولدُ قرب أبيه فلا يجده، علِّمُوا أولادكم البر يبروكم، وأروهم حرصكم على بر آبائكم ليقتدوا بكم، أدخلوا السرور عليهم، وأظهروا اهتمامكم بما أهمَّهم، وشاوروهم، وأخبروهم دائمًا بمنزلتهم عندكم تفوزوا وتسعدوا بجيل يسُرُّ خواطركم، أرانا الله وإياكم في ذرياتنا ما نتمنَّى، وفوق ما نتمنَّى من خيري الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا مُعظِّمين لأمرك مؤتمرين به، واجعلنا مُعظِّمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهُمَّ أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العُلى أن تعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تُدمِّر أعداء الدين، وأن تنصر من نصر الدين، وأن تخذل من خذله، وأن توالي مَنْ والاه، بقوتك يا جبَّار السماوات والأرض.
_________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني