الربيع العربي..إلى (الأسلمة)...أم (اللبـرلـة)...؟!
فهد بن صالح العجلان
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
بعد عقودٍ متوالية من السنين، جاء الربيع العربي لينفض (الحقوق والحريات) من تحت ركام الظلم والفساد والجبروت الذي خلفته تلك النظم الفاسدة، فأصبحت هموم الناس وأحاديثهم تدور حول تلك الحقوق التي كانت مغيبة في ما مضى؛ فلا حديث يعلو في مجتمعات المسلمين الآن فوق حديث الحقوق والحريات.
ولئن اتفقت كلمة كافة الناس على مبدأ (الحقوق والحريات) فإن ثَمَّ اختلافاً جذرياً بيِّناً حول الفلسفة التي تنطلق منها هذه الحقوق، والإطار الكلِّي الذي يحكمها ويضع حدودها؛ فكل اتجاه يسعى لتقديم نموذجه الفكري حاكماً وموجهاً لهذه الحقوق، ويوجِّه كافة الوسائل لإقناع الناس لتبني هذا النموذج الخاص.
كل المعطيات الواقعية تكشف أن إرادة جمهور الناس تبحث عن النموذج الإسلامي للحقوق والحريات، قد تختلف في تحديده وفي حجم تفاعلها معه لكـن يبقى النمـوذج الإسـلامي -أيّاً كان تفسيره- هو النموذج المحبَّب لتلك الشعوب؛ فالانتماء العميق للإسلام في نفوس أكثر الناس غرز فيها مغناطيساً جاذباً لأي رؤية حقوقية تنطلق من أحكام الإسلام ومبادئه.
لكن هذا لا يكفي، فالفكر الليبرالي يملك من المقومات الفكرية والحشد الإعلامي والسياسي والمالي والدعم الخارجي ما يجعله قادراً على تغيير مفاهيم الناس وإقناعهم بالنموذج الليبرالي؛ فحالة الحقوق والحريات التي أظهرت العمق الإسلامي الشعبي يمكن أن تكون نافذة لتسلل الليبرالية في نفوس المسلمين.
يستدعي هذا من الدعاة والعاملين للإسلام العناية بأمرين:
الأول: توضيح المفهوم الإسلامي للحقوق والحريات وإظهاره بشكل جلي وبيِّن حتى يكون الناس على بيِّنة من أمرهم، فلا تلتبس عليهم المفاهيم، فوضوح المعنى الشرعي كافٍ لأكثر الناس؛ لأنهم مؤمنون بالإسلام فيسلِّمون بكلِّ أحكامه ديانة وانقياداً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحتاج معهم سوى أن توضِّح المفهوم الشرعي وتكشف أيَّ لبس أو انحراف عنه؛ لأن حالهم: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وابتعاد كثيرين عن الإيمان بالمفاهيم الشرعية راجع بشكل أساسي إلى جهلهم بها أو التباسها عليهم.
الثاني: إقناع الناس بأن النموذج الإسلامي للحقوق والحريات هو الأقدر على حفظ حقوقهم، وعنده من الضمانات ما ليست عند غيره، وفيه من الخصائص ما يعمِّق من تأثيره بما تعجز عنه بقية النماذج، وهذا الخطاب نافع جداً لكثيرٍ من الناس الذين لديهم شكٌّ أو تردُّدٌ في تبنِّي النموذج الإسلامي فيضعفون عن المطالبة بالحقوق الشرعية لضعف قناعتهم به، كما أن مثل هذا الخطاب الواقعي العقلاني سيحفظ المسلِّمين لأحكام الإسلام من تسلل المفاهيم الليبرالية جرَّاء ضغط دلائلها وبراهينها.
هذان العاملان يُختَصران في (بيان الحكم الشرعي) و (إقامة الدلائل والبراهين عليه)، ولئن كان علماء الإسلام هم الأقدر على الجانب الأول، فإن المعنى الثاني يحتاج لمشاركة فئات أخرى من المتخصصين في القانون والعلوم السياسية والفكر والاقتصاد وبقية العلوم المعاصرة لإقامة منظومة علمية متكاملة من المفاهيم والدلائل والتجارب التي تكشف تفوُّق النموذج الإسلامي؛ ليزول الغبش عمن في قلبه شيء، ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
فمعرفة الحكم الشرعي تختلف عن القدرة على البرهنة عليه؛ فليس أحدهما مرتبطاً بالآخر؛ فقدرة الإنسان على معرفة الحكم الشرعي لا تجعله قادراً على المحاججة في إثباته وإقناع الناس به؛ إذ هذا قد يتطلَّب مهارات وعلوماً إضافية لا تكون موجودة لدى العالِم بالحكم، وهذا ما يستدعي ضرورة التكامل بين المتخصصين بالشريعة والمتخصصين في بقية المجالات ليقوم كلُّ أحدٍ منهم بواجبه الشرعي.
كما أنَّ عدم اقتناع المسلم بعقلانية حكمٍ شرعيٍّ ما، أو قدرته على الإقناع به لا يجيز له تجاوزه وتركه ولو بدعوى أن الأحكام الشرعية لا تخالف العقل والمصلحة؛ لأنه ليس بالضرورة يكون مدركاً لكل هذه المصالح في هذه اللحظة، كما أن فهمه وإدراكه ليس هو الحاكم على العقل والمصلحة.
لا شيء سيحفظ هذه الحقوق ويحقق ضمانات عميقة لها مثل إدراجها ضمن مفاهيم الإسلام وأحكامه؛ فالمفاهيم والقيم المحكومة بالإسلام تتميز بخصائص عدة، هي:
أولاً: أنها تكتسب صفة (الثبات) و(القطع) و(الوضوح) فتكون مفاهيمَ شرعيةً ربانيةً غير قابلة للنقاش؛ فلا تخضع لتصورات معاصرة أو اجتهادات لاحقة؛ فالنص القرآني والحديث النبوي قد قضى بها ولا معقب لحكم الله، وهي قضية ربما لا تشدُّ ذهن المسلم لأنه يراها بدهية، لكنه سيعرف قيمتها وفضلها حين يقرأ في مسيرة (الحقوق) التي قد عانت مخاضاً عسيراً في الفكر الغربي خلال تاريخه الصراعي الطويل معها، فغياب القطعيات جعل تحديد الحقوق معضلة فكرية عويصة؛ فمن الذي يحدد هذه الحقوق؟ سؤال يجيبه المسلم بكل استرخاء، لكنه يسبب إشكالاً عميقاً لدى كل من حيَّد الدين عن الحكم، فجاءت نظريات (الحقوق الطبيعية) و(القانون الطبيعي) التي رفعت جملة من الحقوق فجعلتها حقوقاً غير قابلة للنقاش، وليس لهذه النظريات من مستنَد سوى فكرة خيالية تقرر أن الإنسان يولد ومعه جملة من الحقوق، ولا شيء يثبت وجود هذه الحقوق سوى أنها يجب أن تكون موجودة! فهي في الحقيقة قد تبنت المفهوم الديني في القطع بهذه الحقوق لكنهم استنكفوا عن ربطها بالدين.
الثاني: أن المفهوم الإسلامي للحقوق يجعلها حقوقاً دينية ذاتية قبل أن تكون حقوقاً قانونية نظامية، فالمسلم يقوم بها ويلتزم بها ديانة لله ووقوفاً عند حدوده، وهذا يعطي الحقوق دعماً عميقاً لا تملك بقية النماذج أن تقترب منه؛ فالنظام القانوني مهما كان محكماً ومتطوراً فهو عاجز عن الوصول إلى تلك المناطق العميقة التي يصل إليها هذا الدين، فالحقوق بهذا المفهوم ترتكز على رقابة ذاتية يراقب المسلم فيها ربه، فتكون مستحضرة في الظاهر والباطن، في ما يثبت عند القانون وفي ما لا يقدر القانون على إثباته، تنشط لها النفوس، وتمارس عليها دوراً رقابياً احتسابياً نابعاً من الدين، فتجاوُز الحقوق منكر يجب إنكاره من الجميع «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان».
الثالث: أن المجتمعات المسلمة لا يصلح لها إلا المفهوم الإسلامي للحقوق والحريات؛ فلئن نجحت منظومة الفكر الليبرالي في المجتمعات الغربية فهذا راجع لسياقها الثقافي والتاريخي، وأما المجتمعات المسلمة فهي عميقة التدين بالإسلام لا ترضى بغير الإسلام بديلاً؛ ففـرض نمـوذج مخالف لهـويتها لن يكون متقبَّـلاً وسـيواجَه بمعـارضات وإشـكالات لن تُحَلَّ إلا بالنمـوذج الذي ينسجم مع ذاتها وهويتها وتاريخها.
الرابع: أن المطالبة بحكم الإسلام لن تتوقَّف في مجتمعات المسلمين إلا إذا حكم بالإسلام؛ فما دام أن الحكم في المجتمعات لغير الإسلام فلن تتوقَّف هذه المطالبات، وقد تسلك في سبيل ذلك وسائل غير صحيحة وتؤدي لمفاسد وأضرار، أو تتبنى رؤى مغالية أو مخالفة للإسلام، وكلُّ الحلول لإيقاف هذه الوسائل ستبوء بالفشل، الحل الوحيد هو في التطبيق الصحيح للإسلام، والذي يظنّ أن المجتمعات المسلمة ستحيِّد الإسلام في الحكم كما حيَّدت المجتمعات الغربية الحكم الكنسي فهو غارق في الوهم لأقصى أذنيه، وهو بعيد عن فهم طبيعة الإسلام وعن إدراك عمق تأثيره في نفوس المسلمين.
خامساًَ: أن الراية الإسلامية هي الراية الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها الناس وتستمر في ثبات وضمان، وأما الرايات الأخرى فيمكن أن تجمع الناس في مرحلة زمنية معنية لكنها لا يمكن أن تستمر؛ لأنها باختصار راية مؤقتة يرتهن تأثيرها بعوامل مؤقتة تزول هذه الراية مع زوال تلك العوامل، وقد جرَّب العالم الإسلامي رايات كثيرة تلاحقت سقوطاً، وسيتلاحق غيرها، وأما الراية العميقة في نفوس الناس وتاريخهم ومستقبلهم فهي الراية المرشحة لأن تكون محل وفاق.
يبقى أن ثَمَّ عاملين مُشكِلَين قد يكونا عامل إخفاق وتعثُّر للنموذج الإسلامي المعاصر:
العامل الأول: الخلل في التسوية بين الحالة المثالية والوضع الاستثنائي: فيعاملهما الشخص على اعتبارهما حالة واحدة؛ فإما يغلو فيطالب بتطبيق الحالة المثالية الشرعية في كافة الأوضاع من دون مراعاة لما تقتضيه الحاجة أو الضرورة أو الإمكان في تلك المجتمعات، ويتهم العاملين هناك بالقصور وتضييع الدين، وإما يفرِّط فيجعل الاستثناء هو الأصل، فينفي عن الشريعة كلَّ ما لا يمكن تطبيقه من الأحكام الشرعية، ويعيد تركيب المفاهيم الشرعية على وَفْق الحاجات المعاصرة.
إنها غياب الرؤية الواضحة والميزان الصحيح في التفريق بين حالتي (الأصل) و(الاستثناء) فالمسلم مطالَب بتطبيق أحكام الإسلام بحسب الإمكان والاستطاعة، ومطالب في الوقت نفسه أن لا يحرِّف الأحكام الشرعية ولا يقوِّل الشريعة ما لم تقل، وهذا الخلط بارز للعيان بوضوح في المشهد الإسلامي المعاصر وهو مؤذن بتنازع يؤدِّي إلى الفشل.
العامل الثاني: الاختلاف في مفهوم النموذج الإسلامي وحدوده: حيث يستغل بعض الزائغين الاختلاف الفكري بين العاملين للإسلام من أجل ضرب النموذج الإسلامي بكليته، فينفي وجود نموذج إسلامي نظراً لاختلاف الناس فيه، وهذا يتطلَّب ضرورة التأكيد على الأصول الكلية والقواعد القطعية في النموذج الإسلامي، وتحكيم الخلافات فيه إلى المنهج القطعي في التعامل مع الخلافات {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ويمكن وضع كثير من الآليات لحسم مثل هذا الخلاف حين يكون الشخص فعلاً مؤمناً وموقناً بالنموذج الإسلامي؛ لكنه سيكون موهناً للواقِعين تحت ضغط آلة المفاهيم الغربية.
فالخلط بين (الأصل) و(الاستثناء) في فهم الأحكام الشرعية تفريطاً أو إفراطاً، والخلاف في تحديد النموذج الإسلامي للحكم: هو من التحديات الفكرية الخطرة التي قد تحدث فجوة عميقة تخلخل أساس النموذج الإسلامي في نفوس الناس.