الطريق لك ولغيرك
إيَّاكُمْ والجُلُوسَ بالطُّرُقاتِ فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما لنا مِن مَجالِسِنا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فيها، فقالَ: إذْ أبَيْتُمْ إلَّا المَجْلِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ
أخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إيَّاكُمْ والجُلُوسَ بالطُّرُقاتِ فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما لنا مِن مَجالِسِنا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فيها، فقالَ: إذْ أبَيْتُمْ إلَّا المَجْلِسَ، فأعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قالوا: وما حَقُّ الطَّرِيقِ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السَّلامِ، والأمْرُ بالمَعروفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ » .
أيها الإخوة الكرام: من المنافع المشتركة بين الناس (الطريق) هو لك ولغيرك ، للناس في الطريق نصيب كما أن لك في الطريق نصيب ، لا تزيد عليهم في شيء ولا يزيدون عليك في شيء ..
الله سبحانه ذكر الطريق في آيات القرآن الكريم على أنها نعمة من النعم العامة كالماء والهواء والكلأ والنار ..
قال عز من قائل ﴿ { وَأَلْقَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ رَوَٰسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَٰرًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾}
أما الرواسي فهى : الجبال وسميت الجبال بالرواسي لأن الله تعالى ألقاها على الأرض فرست الأرض واستقرت ..
وأما الأنهار: فهى تلك التي شقها الله تعالى وأمدها بالماء الزلال العذب سائغ الشراب وقال : {﴿ لِّنُحْيىَ بِهِۦ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُۥ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَٰمًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا ﴾}
وأما السبل فهى : الطرق التي سهلها الله تعالى ومهدها وذللها لحركة الناس وقال { ﴿ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُوا۟ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا۟ مِن رِّزْقِهِۦ ۖ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ ﴾}
أما عن الطريق في السنة النبوية فقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه كثيراً ومنها قوله عليه الصلاة والسلام «عُرِضَتْ عَلَيَّ أعْمالُ أُمَّتي حسَنُهَا وسيِّئُهَا فوجَدْتُ في مَحاسِنِ أعْمالِهَا الأذَى يُماطُ عن الطَّرِيقِ، وَوجَدْتُ في مَساوَىءِ أعْمالِها النُّخَاعَةُ تَكُونُ فِي المَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ»
وقال عليه الصلاة والسلام «مرَّ رجُلٌ بِغُصْنِ شَجرةٍ عَلَى ظَهْرِ طرِيقٍ فَقَالَ: واللَّهِ لأُنَحِّينَّ هذا عنِ الْمسلِمِينَ لا يُؤْذِيهُمْ، فأُدْخِلَ الْجَنَّةَ».
جاء البيان النبوي يتكلم عن رعاية حق الطريق فمن حق الطريق أن نوسعه للناس لا أن نضيقه على الناس ، بزراعتها أو بالبناء فيه أو بإشغاله ، من حق الطريق أن نوفر فيه أسباب السلامة فلا نؤذ ماراً بالطريق بفضول نظر ، ولا بقضاء حاجة من بول أو غائط ولا بشيء يكرهه الناس ..
قال عليه الصلاة والسلام «( اتَّقوا الملاعنَ الثلاثَ : البَرازُ في الموارِدِ ، و قارِعَةِ الطَّريقِ ، و الظِّلِّ )»
عَنْ أبي طلْحةَ زيْدِ بنِ سهْلٍ رَضِىَ اللَّه عنْهُ قَالَ: «كُنَّا قُعُوداً بالأفنِيةِ نَتحَدَّثُ فيها فَجَاءَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَقَامَ علينا فقال: «مالكُمْ وَلمَجالِسِ الصُّعُداتِ؟» فَقُلنا: إنَّما قَعدنَا لغَير ما بَأس: قَعدْنَا نَتَذاكرُ، ونتحدَّثُ. قال: «إما لا فَأدُّوا حَقَّهَا: غَضُّ البصرِ، ورَدُّ السَّلام، وحُسْنُ الكَلام» »
من حق الطريق أن يسعى الناس فيه بسلام فلا يتعثرون في شوك ولا حجر ، ولا يتعرضون لغمز ولا لمز ، ولا يسمعون ما يكرهون ومن آكد حقوق الطريق إزالة الأذى عنه ، فلا نجعل بالطريق عظماً ، ولا شوكاً ، ولا حجراً ، ولا ماءً يعرقل مسير الناس ..
وفي البيان النبوي : أن إزالة الأذى عن طريق الناس شعبة من شعب الإيمان ودرجة من درجاته وزاوية من زواياه قال النبي عليه الصلاة والسلام «الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ »
هذا الحديث ما دلالته ؟
«الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ»
دلالة هذا الحديث هى أن الإيمان قولٌ وعمَلٌ واعتقادٌ، والإيمان شُعَبٌ ودَرَجاتٌ، والخِصالُ الحَميدةُ كلُّها تَندَرِجُ تَحتَ الإيمانِ ..
ومِن عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّ الإيمانَ يَزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ؛ فالمؤمِنُ يَزيدُ إيمانُه بفِعلِ الصالحات ، ويضعف إيمان المؤمن بالوقوع في السيئات والمنكرات ..
أصلُ الإيمانِ قولُ: «لا إلَهَ إلَّا اللهُ» والعملُ بِمُقتَضى ذلك الإيمانِ هو أيضاً أصلُ الإيمانِ ، فالإيمان قول يصدقه عمل .
ثُمَّ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أقلَّ أعمالِ الإيمانِ هو إماطة الأذَى عن طريق الناس من حَجَرٍ، أو شَوكٍ، أو شجر ، وإبعادُه عَن طَريقِ النَّاسِ، حتى لا يؤذيهم , ثم إن الحياء شعبة من شعب الإيمان..
من القصص القرآني الكريم الذي أودع الله فيه العظة والعبرة ، قصة قوم لوط عليه السلام ونستأنس بقصة قوم لوط في يومنا هذا ونحن نتكلم عن ( حق الطريق) لأن قوم لوط عرفوا من بين الأمم أنهم كانوا يؤذون الناس في الطرقات..
ضيق قوم لوط الطريق على الناس ،وقطعوا الطريق على الناس ،وأتوا بالأذي ماديًا ومعنوياً في الطريق قال الله تعالى: {﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦٓ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُوا۟ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴾﴿ قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِى عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾}
أرسل الله تعالى لوطاً عليه السلام إلى قومه ، وكانوا قوم سوء ، كانوا أسرى لشهواتهم وغرائزهم التي خالفت الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، كانوا يأتون الفواحش ويرتكبون الرذائل ، وكان من بين مساوئهم أنهم كانوا يقعدون بالطريق فيتربصون ويكمنون للمسافرين فيعتدون عليهم ، ويؤذونهم بأفعالهم الخبيثة التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين ، ثم إنهم كانوا يؤذون الناس في الطرقات بالسب والشتم ، حتى ورد أنهم كانوا يستهزؤون بالمارة ويقذفون الناس بالحصى ، وفي مجالسهم كان أحدهم يخرج (الريح) أعزكم الله بلا حياء ولا حرج فلما اجتمعت عليهم تلك الفواحش ( شرك بالله تعالى ، وفساد أخلاق ، وشذوذ جنسي ) وبالمناسبة يقال على فعل قوم لوط (شذوذ جنسي) ويقال عنه (فاحشة) ولا يقال عنه (لواطاً) فالفعل الخبيث ينسب إليهم ولا ينسب إلى النبي لوط عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ..
أرسل الله تعالى إليهم سيدنا لوط عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله الواحد الأحد فلم يسمعوا له ، وعكفوا على عبادة غير الله فعبدوا الشمس والقمر والنجوم والأصنام قال الله تعالى {﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾} وقال {﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍۭ بِٱلنُّذُرِ ﴾}
حذرهم سيدنا لوط عليه السلام من الشرك بالله تعالى, ومن الوقوع في الفواحش والمنكرات فلم يلتفتوا له ، ودعاهم إلى الطهر والنقاء والعفاف فلم يسمع له ولم يؤمن بدعوته إلى ابنتيه فقط {﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ ﴾﴿ قَالُوٓا۟ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾﴿ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾}
جمع قوم لوط بين (الشرك بالله تعالى ، وبين الفساد الأخلاقي ، وبين الشذوذ الجنسي، وبين السخرية، وبين قطع الطريق، وبين السب، وبين الشتم ، وبين أذية الناس ) فلما اجتمعت عليهم كل تلك الفواحش كانت أحد أسباب فسادهم وهلاكهم فأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ..
قال الله تعالى: {﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴿ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ۖ وَمَا هِىَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾}
خطورة الاعتداء على الطريق العام ، وأذية الناس في الطرقات ، بالتعدي عليه ، والاستيلاء عليه ، أو البناء عليه ، أو غصبه ، أو بوضع الحجر والشوك والشجر ، أو ربما بالنجس والقذر هو مما يُستهان به وهو مما لا يبالي الناس به ويحسبونه هيناً وهو عند الله تعالى عظيم..
قال الله تعالى لقوم سيدنا شعيب عليه السلام { ﴿ وَلَا تَقْعُدُوا۟ بِكُلِّ صِرَٰطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِۦ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَٱذْكُرُوٓا۟ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَٱنظُرُوا۟ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾}
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث عن آداب الطريق ،وعن عقوبة من ضيق على الناس ، وآذاهم في طريقهم فزرعه أو غصبه أو بنى عليه بناء ..
بقى لنا أن نقول : ورد فيما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله : «(لقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ، في شَجَرَةٍ قَطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ )»
وفي حديث آخر في الصحيح أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام «(بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ فأخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له فَغَفَرَ له»
في هذه الروايات دلالتها أن من أبواب العبادة إماطة الأذى عن طريق ..
وقد ورد في صحيح السنة أن أحد أحسن أعمال هذه الأمة إزالة الأذى عن طريق الناس..
ثم إن من صور الصدقات المقبولات رعاية حق الطريق والكف عن أذية الناس ، وإزالة الأذى قال النبي عليه الصلاة والسلام «كُلُّ سُلامى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ .. » على كل عظمة من عظامك صدقة ، وعلى كل مفصل من المفاصل صدقة وذلك كل يوم ..
ولما كان إخراج كل هذه الصدقات قد يفوق طاقة الجميع حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بدائل لصدقة المال فقال عليه الصلاة والسلام :
« « تَعْدِلُ بيْن الاثْنَيْنِ صَدقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ صَدقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيبةُ صدقَةٌ، وبكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» »
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
- التصنيف: