حائرون بالنهار.. خائفون بالليل: الدنيا وأسرها
تحت وطأة الحرب يفقد الناسُ الأمنَ والأمان وقوتهم، ويحِلُّ الخوف والجوع، هم حائرون بالنهار، خائفون بالليل، بعد أن فقدوا الأمن والأمان والرزق، ولا أظن أنني أبالغ إذا قلت: وما الدنيا إلا هذان.
- التصنيفات: نصائح ومواعظ -
تحت وطأة الحرب - أو أي نازلة من النوازل - يفقد الناسُ الأمنَ والأمان، كما يفقدون أرزاقهم وقوتهم، ويحِلُّ الخوف والجوع، هم حائرون بالنهار، خائفون بالليل، بعد أن فقدوا الأمن والأمان والرزق، ولا أظن أنني أبالغ إذا قلت: وما الدنيا إلا هذان.
وبهذا المفهوم، من امتلك الأمن في النفس والمال، والأهل والولد، وكان معافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه، فهذا شأنه من حاز الدنيا بأسرها؛ قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»[1].
وهذا الحديث احتوى على فوائدَ عظيمةٍ وكبيرة، لا يدركها حقَّ الإدراك إلا من تعرَّض لواحدة منها - لا قدر الله – مثل: انعدام الأمن كما في حالة الحروب، أو اعتلال البدن بالأمراض.
والفرد في حاجة دائمة للأمن والصحة والقوت، فلا يمرض الجسد أو الروح، وأن يشعر بالأمان في نفسه وأهله وجماعته، فلا يخاف وتقلق روحه، وفي حاجة للغذاء والقوت، فلا يشعر بألم الجوع والسَّغَب، وكل ذلك عند الله سبحانه وتعالى وحده؛ قال الله جل وعز: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1 - 4].
مع هذا يمكن قراءة واستنباط الفوائد الآتية:
الفائدة الأولى: حاجة الفرد الأساسية تتكون من ثلاث ضرورات هامة لا غِنى عنها؛ وهي: العافية والصحة، والأمن، والغذاء.
الفائدة الثانية: عافية البدن والروح، وتوفُّر الأمن والرزق هي متطلبات عظيمة، حتى إنها تعادل متاع الدنيا بكاملها.
الفائدة الثالثة: أهمية هذه المتطلبات الثلاثة وضرورتها الفائقة في الحياة.
الفائدة الرابعة: إنَّ الذي يفقد الأمن والأمان، ويعيش الخوف والرعب كما في حالات الحروب، فهو في شقاء عظيم، إلى أن يرجع له الأمن، وتنتهي الحروب ومسبباتها، أو أن ينتهي مصدر الخطر الذي يشعر الناس في وجوده بالخوف والرعب.
الفائدة الخامسة: مَنْ يَفْقِدْ صحته وعافيةَ بدنِهِ، وتُصِبْهُ الأمراض، فهو في شقاء وبلاء عظيم، إلى أن تعود له صحته وعافية بدنه وروحه، ومَن تصِبْه الأمراض، فهو لا يشقى ويتألم وحده وحسب، بل إن الألم لَيتعدَّى لكل المرافقين حوله؛ الأب يتألم إذا مرِض ولده، والولد يتألم ويشقى إذا مرض أحد والديه، وهكذا، بل إن الألم لَيتعدى للأقارب ولكل من له صلة بالمريض.
الفائدة السادسة: من يُعْدَم قوت يومه ورزقه، فهو أيضًا في بلاء عظيم؛ قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أخبر تعالى أنه يبتلي عباده المؤمنين؛ أي: يختبرهم ويمتحنهم؛ كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، فتارة بالسراء، وتارة بالضراء من خوف وجوع؛ كما قال تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، فإن الجائع والخائف كليهما يظهر ذلك عليه، ولهذا قال: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]، وقال ها هنا: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]؛ أي: بقليل من ذلك، {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ} [البقرة: 155]؛ أي: ذهاب بعضها، {وَالْأَنْفُسِ} [البقرة: 155]، كمَوتِ الأصحاب والأقارب والأحباب، {وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]؛ أي: لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، كما قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة، وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه الله، ومن قنط أحل الله به عقابه؛ ولهذا قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]"[2].
الفائدة السابعة: توفُّر القوت ووجود الأمن والعافية هي أشياء عظيمة ينبغي شكرها؛ قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل: 112]؛ يعني: مكة، كانت آمنةً لا يُهاج أهلها ولا يُغار عليها، {مُطْمَئِنَّةً} [النحل: 112]: قارَّةً بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع، كما يحتاج إليه سائر العرب، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112]: يُحمل إليها من البَرِّ والبحر، نظيره: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل: 112]، جمع النعمة، وقيل: جمع نَعْماء، مثل بأساء وأبْؤُس، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} [النحل: 112]، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم الْمِيَرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا وأكلوا العظامَ الْمُحرَقة، والجِيَفَ والكلاب الميتة، والعهن وهو الوبر يُعالَج بالدم، حتى كان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، ثم إن رؤساء مكة كلَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما هذا؟ هَبْكَ عاديتَ الرجال، فما بال النساء والصبيان؟ فأذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحَمْلِ الطعام إليهم وهم بعدُ مشركون، وذكر اللباس؛ لأن ما أصابهم من الهزال والشُّحُوب، وتغيُّر ظاهرهم عما كانوا عليه من قبل كاللباس لهم، {وَالْخَوْفِ} [النحل: 112]؛ يعني: بُعُوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم، {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]"[3].
الفائدة الثامنة: في الحديث ترغيب للاستفادة من الوقت، فمن كان معافًى في جسده وآمنًا، وعنده رزق يومه، فلْيُخصِّص هذه النعمة ويستخدمها فيما يُرضي الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحةُ والفراغُ»[4].
وفي حديث عبدالله بن عباس: «الأمن والعافية نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس»[5].
الفائدة التاسعة: تقديم الأمن على العافية والصحة، والرزق والقُوت، يدل على أهمية الأمن والأمان، وأفضليته على باقي الضرورات، فمن كان معافًى في جسده، عنده قوت يومه، إلا أنه يفتقد الأمن، فهو لا يزال في الشقاء.
الفائدة العاشرة: وجوب شُكْرِ نِعَمِ الله كلها، ونعم الله كثيرة ولا تُحصى؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].
نعم الله عز وجل على عباده كثيرة لا تُحصى؛ كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فلا أحدَ يُطيق إحصاء عددها، فضلًا عن القيام بشكرها، ولكن الله تعالى يتجاوز عن عباده تقصيرهم في شكر نعمِهِ، وهو رحيم بهم، لا يقطع عنهم إحسانه، ولا يعذبهم بسبب تقصيرهم، فيرضى من عباده الشكرَ القليلَ، ويجازيهم عليه الثواب الكثير.
ثم نبَّههم على كثرة نِعَمِهِ عليهم وإحسانه إليهم؛ فقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]؛ أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه، لَعَجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لَضعُفتُم وتركتم، ولو عذَّبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على اليسير[6].
والذي يشكر نعم الله، ويعبده ويوحِّده، ولا يشرك به شيئًا، فإنه أمره كله لله، ولا يظلم ربك أحدًا، ومن آمن بالله وأفرد عبوديته لله، وصرف صلاته وزكاته وحَجَّه، ودعاءه واستغاثته ونذره، وكل عبادته للواحد الأحد الفرد الصمد، فهذا له الأمن؛ قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له، ولم يشركوا به شيئًا هم الآمِنون يومَ القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: ((لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، قال أصحابه: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: ((لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على الناس، وقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: «إنه ليس الذي تَعْنُون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح» {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، «إنما هو الشرك».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع وابن إدريس، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: ((لما نزلت: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنون، إنما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13][7].
[1] سنن الترمذي.
[2] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.
[3] تفسير البغوي، معالم التنزيل.
[4] صحيح البخاري.
[5] الطبراني، المعجم الأوسط.
[6] ابن كثير، المصدر السابق.
[7] المصدر السابق.
_____________________________________________________
الكاتب: التجاني صلاح عبدالله المبارك