فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ
خالد سعد النجار
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
- التصنيفات: التفسير -
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
{{فَلَمَّا أَحَسَّ}} الإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
{{عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} } فلما أدرك بحاسته، واستشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال، وجحود نبوّته وإنكار معجزاته. مع هذه الآيات العظيمة التي يشاهدونها.
{{قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} } يعني إذا كان الإيمان تعذر منكم جميعاً فمن الذي يكون ناصري منكم؟ و (إلى) هنا للغاية، ولم يقل: من أنصاري (في) الله؛ ليكون النصر مبنياً على الإخلاص؛ لأن (إلى) للغاية، فيريد أن يكون نصراً موصلاً إلى الله عز وجل.
والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه، فالظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في مواسم الحج، قبل أن يهاجر: «(مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى أن أبلغ كلامَ رَبِّي، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ رَبِّي)» [رواه أحمد في المسند من حديث جابر رضي الله عنه] حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر.
وهكذا عيسى ابن مريم، انْتدَبَ له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
وهذا موقف من مواقف الرسل، فقد أخبر الله تعالى عن نوح: {{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}} [القمر:10] وقال موسى: {{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي}} [طه:29].
{{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ}} لقب غلب على أصحاب عيسى عليه السلام: الذين آمنوا به ولازموه، وكانوا اثنى عشر رجلا، وهو اسم معرب من النبطية ومفرده حواري.
والحواري: صفوة الرجل وخاصته، وهو مشتق من: الحور، وهو البياض. حورت الثوب بيضته، وسموا حواريين لسلامة قلوبهم من أثر المعاصي؛ لأن للمعاصي -نسأل الله العافية- نكت سوداء تكون في القلب كلما عصى الإنسان نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب صقل وعاد إلى الاستنارة، وإن لم يتب وأحدث معصية أخرى زادت نكتة أخرى، وهكذا حتى يطبع على القلب.
والحواري أيضا: الناصر، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما نَدبَ الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدَبَ الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال: «(إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ)» [البخاري] .
{نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أنصار دينه وشرعه. والداعي إليه، وفيه دلاله على أنهم علموا أن نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله.
وقد آمن مع الحواريين أفراد متفرقون من اليهود، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم، وآمن به من النساء أمه عليها السلام، ومريم المجدلية، وأم يوحنا.. ونساء أخر، ولكن النساء لا تطلب منهن نصرة.
{{آمَنَّا بِاللَّهِ}} الإيمان في الشرع هو: الإقرار المستلزم للقبول والإذعان. لا يكفي التصديق فقط بل لا بد من قبول ما جاء به الرسول والإذعان له.
{{وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}} أشهدوا نبيهم عيسى -عليه الصلاة والسلام- على إسلامهم، مع أنه شهيد عليهم سواء استشهدوه أم لم يستشهدوه، فكل رسول شهيد على أمته، ولكنهم قالوا ذلك من باب التوكيد وإعلان الإسلام.
فلما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستند لإيمانهم، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم، وعليهم.
ودل ذلك على أن عيسى -عليه السلام- كان على دين الإسلام، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]
** وفيه أن إشهاد الإنسان على نفسه بالإيمان أو بالإسلام أو ما أشبه ذلك لا يعد من الرياء لاسيما في الاتباع؛ لأن في ذلك فائدة وهي: «تقوية المتبوع»، ولا يعد هذا من الرياء.
ولم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى، ولكنه بين في سورة "الصف"، أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نصرة الله ودينه، وذلك في قوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}} [الصف:14].
{{رَبَّنَا}} منادى حذفت منه ياء النداء لسببين :كثرة استعمال هذا الاسم الكريم في الدعاء، والتبرك بالبداءة باسم الله عز وجل؛ لأن الرب من أسماء الله .
** وفيه التوسل إلى الله تعالى بربوبيته؛ لأن الربوبية تدور على ثلاثة أشياء وهي: الخلق والملك والتدبير. وإجابة الدعاء داخل في هذه الثلاثة، فلذلك كان كثيراً ما يتوسل دعاة الله بالربوبية كما جاء في الحديث الصحيح: (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب)
{{آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ}} (ال) هنا في (الرسول) للعهد الذهني، وهو عيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا رسول لهؤلاء القوم من بني إسرائيل إلا عيسى، فالذي عين أن يراد بالرسول عيسى هو العهد الذهني الذي كان معلوماً عندهم.
والاتباع في الحقيقة هو ثمرة الإيمان؛ وكلما كان الإنسان أقوى إيماناً كان أشد اتباعاً لمن آمن به، وكلما قل الإيمان قل الاتباع، هكذا، ويصح أن نقول: كلما قل الاتباع قل الإيمان.
ولهذا يقرن الله عز وجل بين الإيمان والعمل الصالح في آيات كثيرة؛ لأن الإيمان المجرد لا ينفع، والعمل الصالح بمنزلة سقي الشجرة، إن لم تسقها ماتت، ولهذا ينبغي لنا عندما نتكلم عن الإسلام أن لا نحاول جعل الإسلام عقيدة فحسب، بل هو: «عقيدة وعمل» العقيدة وحدها لا تكفي؛ لأن العقيدة الآن كل يدعي أنه معتقد، اليهود والنصارى يقولون: نحن نؤمن بالله واليوم الآخر، ونؤمن بأن هناك ربا مديراً للخلق، وأنه عزّ وجل خالق، ونؤمن بالبعث ولكن هذا ليس بإيمان، وإن كان عندهم هذه العقيدة، فهذه عقيدة فاسدة، فلا بد من قرن العقيدة بالعمل الصالح، حتى لا يتكل الناس على ما عندهم من العقيدة ويقولون لا حاجة للعمل.
{{فَاكْتُبْنَا}} وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ: {{فَاكْتُبْنَا}} ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه.
{{مَعَ}} (مع) هنا للمصاحبة، والمصاحبة لا تقتضي المخالطة أو الموافقة في الزمن، فقد تكون المصاحبة مع قوم سبقوك لكن في النهاية يكونون معك إلى الله.
{{الشَّاهِدِينَ}} أي مع الذين شهدوا لرسل الله بالتبليغ، وبالصدق، وهذا مؤذن بأنهم تلقوا من عيسى فيما علمهم إياه فضائل من يشهد للرسل بالصدق.
عن ابن عباس قال: مع أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وهذا إسناد جيد... لأن الشهادة المطلقة ليست إلا لهم؛ لأنهم آخر الأمم، فهم شهداء على جميع الرسل وعلى جميع الأمم، والشهداء الذين كانوا من قبلهم ليسوا شهداء إلا على من سبقهم فقط، كما قال الله تعالى: {{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}} [البقرة:143] والمعنى: اكتبنا مع أمة محمد، ولا يرد على هذا التفسير أنهم سبقوا أمة محمد فكيف يطلبون أن يكتبوا مع الشاهدين؟
والجواب: أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- قد بشرهم بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:٦]، فكان عندهم علم بهذه الأمة بواسطة البشارة التي ألقاها إليهم عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام.
والقول الثاني: أن المراد بالشاهدين الذين شهدوا لرسلك بالحق، وهذا يتناول من سبقهم بلا شك، ويتناول أمة محمد إذا كان بعد أن أخبرهم بذلك وبشرهم به، وهذا القول الثاني أعم من القول الأول وأقل إشكالاً منه .
{{وَمَكَرُوا}} الضمير يعود على الذين كفروا بعيسى من بني إسرائيل، وقد بين ذلك قوله تعالى، في سورة الصف: {{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}} [الصف:14]
والمكر فعل يقصد به ضر أحد في هيئة تخفى عليه، أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع، ويشبهه الخداع، ومكرهم هو احتيالهم وسعيهم لدى ولاة الأمور ليمكنوهم من قتل عيسى، أو بأن وكلوا به من يقتله غيلة.
{{وَمَكَرَ اللَّهُ}} قيل: المكر هنا الأخذ بالغفلة لمن استحقه.. وقيل: مجازاتهم على مكرهم وسمى ذلك «مكراً» من باب المقابلة والمشاكلة، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر، كقوله: {{وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا}} [الشورى:40] وقوله: { {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}} [البقرة:194] وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
أما أن نصف الله بالمكر على الإطلاق فهذا لا يجوز لأن المكر صفة نقص، وأفعاله تعالى منزهة عن الوصف بالقبح أو الشناعة، لأنها لا تقارنها الأحوال التي بها تقبح بعض أفعال العباد؛ من دلالة على سفاهة رأي، أو سوء طوية، أو جبن، أو ضعف، أو طمع، أو نحو ذلك. أي فإن كان في المكر قبح فمكر الله خير محض.
{{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}} أي أقواهم عند إرادة مقابلة مكرهم بخذلانه إياهم.. ولم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ولا مكر الله باليهود، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به: محاولتهم قتله، وذلك في قوله: { {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}} [النساء:157]، وبين أن مكره بهم: إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وذلك في قوله: {{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}} [النساء:157]، وقوله: {{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً, بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}} [النساء:157-158].
فقال تعالى مخبرا عن ملأ بني إسرائيل فيما هَمُّوا به من الفتك بعيسى -عليه السلام-، وإرادته بالسوء والصَّلب، حين تمالئوا عليه وَوَشَوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرًا، فأنْهَوا إليه أن هاهنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك، وَيُفَنِّد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زانية حتى استثاروا غضب الملك، فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه ويُنَكّل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظَفروا به، نجاه الله من بينهم، ورفعه من رَوْزَنَة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى -عليه السلام- فأخذوه وأهانوه وصلبوه، ووضعوا على رأسه الشوك. وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطَلبتِهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد.
والرجل الذي ألقى عليه الشبه هو زعيمهم، فلما أرادوا أن يقتلوه قال: أنا صاحبكم، قالوا: كذبت، بل أنت عيسى فقتلوه وصلبوه. وهذا بلا شك مكر أعظم من مكرهم، لأن هذا الرجل الذي جاء متزعما هؤلاء القوم ليقتل عيسى صار هو القتيل.
وقيل بل الرجل من أصحاب عيسى، فإن عيسى عليه السلام لما أحس بأنهم سيدخلون عليه ليقتلوه، قال لأحد أصحابه: من يقبل أن يلقي الله عليه شبهي فأضمن له الجنة، فانتدب واحدا منهم لذلك، وألقى الله شبهه عليه، والمسألة ليست فيها نص عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار