الهمة العالية لن ترضى بغير الجنة
فأصحاب النفوس الكبيرة والهمة العالية لا يرضَون بسفاسف الأمور، وصغار المهمَّات، وإنما يرضون بمعالي الأمور وكبار المهمات...
خُلِقت لي همة عالية تطلب الغايات، بلغت السنَّ وما بلغتُ ما أمَّلتُ، فأخذت أسأل تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال.
فأنكرت عليَّ العادات، وقالت: ما جَرَتْ عادة بما تطلب.
فقلت: إنما أطلب مِنْ قادرٍ على تجاوز العادات.
وقد قيل لرجل: لنا حويجة فقال: اطلبوا لها رُجَيلًا.
وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا تَرْزَؤك، فقال: هلَّا طلبتم لها سفاسف الناس.
فإذا كان أهل الأَنَفَةِ من أرباب الدنيا يقولون هذا، فلِمَ لا نطمع في فضل كريم قادر؟
وقد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة خمس وسبعين، فإن مدَّ لي أجلي، وبلغت ما أملته، نقلت هذا الفصل إلى ما بعد وبيَّضته، وأخبرت ببلوغ آمالي.
وإن لم يتفق ذلك، فسيدي أعلم بالمصالح، فإنه لا يمنع بخلًا، ولا حول إلا به.
وفي مختصر تاريخ دمشق: "قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتك في حاجة صغيرة، فقال: اطلب لها رجلًا صغيرًا".
وحكى ابن قتيبة قال: "قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتك في حويجة، فقال: اطلب لها رُجَيلًا".
فأصحاب النفوس الكبيرة والهمة العالية لا يرضَون بسفاسف الأمور، وصغار المهمَّات، وإنما يرضون بمعالي الأمور وكبار المهمات، وقد عبَّر عن ذلك النقل والعقل:
• أما النقل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «سلني» ، قل: شاة وبعير، يكررها ثلاثًا، فالتفت النبي إلى أصحابه، وقال: «أيعجز أحدكم أن يكون مثل عجوز بني إسرائيل لما قال لها موسى: سليني، قالت: مرافقتك بالجنة» ، قال: أو غير ذلك؟ قالت: «هو ذاك» ؟.
أما العقل: يقول عمر بن عبدالعزيز: "إن لي نفسًا توَّاقة، تاقت إلى الإمارة فنِلْتُها، فتاقت إلى الخلافة فنلتها، وقد صارت نفسي تَتُوقُ لِما هو أكبر؛ الجنة".
يقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
إذا قالوا مَن فتًى خِلْت أنني *** عُنيتُ فلم أكْسَلْ ولم أتبلَّدِ
ويقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائـم *** وتأتي على قدر الكرام المكــــارمُ
وتعظُم في عين الصغير صغارهـا *** وتصغر في عين العظيم العظائمُ
ويقول أبو فراس الحمداني:
إذا خُلِقَ الأنام لحسو كأسٍ *** ومزمار وطُنْبُورٍ وعـــودِ
فلم نُخلق بنو حمـــدان إلا *** لإقدام أو لمجدٍ أو لجُودِ
والأمثلة كثيرة؛ وصدق من قال:
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
من صفات عظيم الهمة:
عظيم الهمة لا يقنع بِمَلْءِ أوقاته بالطاعات، وإنما همه ألَّا تموت حسناته بموته.
وأختم بهذا الحديث: عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجةً، ومنها تفجَّرُ أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله، فَسَلُوه الفردوس»؛ [ (صحيح، رواه الترمذي) ].
الشرح: في الجنة مائة درجة، وما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض في المسافة والبعد، مما يدل على عظم الجنة، والفردوس؛ أي الجنة المسمَّاة بالفردوس كما في القرآن الكريم، أعلى من سائر الجنان، ومن جنة الفردوس تتفجر أنهار الجنة الأربعة، وهي أنهار الماء واللبن، والخمر والعسل، المذكورة في القرآن، ومن فوق الفردوس يكون العرش، وهذا يدل أنها فوق جميع الجنان، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله الفردوس في دعائنا وسؤالنا؛ من حرصه وتعليمه للأمة وتعظيمًا للهمة.
__________________________________________________________
الكاتب: د. محمد أحمد الزهيري
- التصنيف: