بشراكم دخول عشر ذي الحجة
هذه العشر - بل الحياة كلها - أيام معدودة، سرعان ما تنقضي، ولا يدري أحدنا ما يَعْرِض له فيها؛ فقدِّموا لأنفسكم في دنياكم ما يسُرُّكم أن تَرَوه في أُخراكم.
- التصنيفات: الحث على الطاعات - العشر من ذي الحجة -
الحمد لله نحمده وقد أعطانا وكفانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها فوزًا ورضوانًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، الذي ما من خير إلا له دعانا، وما من شر إلا عنه نهانا، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه الذين كانوا على الخير أعوانًا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق تقاته، فإن في تقواه عز وجل العصمةَ من الضلالة، والسلامة من الغواية، والنجاة من المهالك، والفوز في الدنيا والآخرة؛ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 39، 40].
اشكروا الله - عبادَ الله - أنْ بلَّغكم هذه الأيامَ المباركة، اشكروه جل وعلا أن بلغكم أيامًا ليس في العام كله مثلها؛ فإنها من غنائم الحياة الدنيا؛ أيامًا قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أيامٍ العملُ الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام - يعني أيام العشر - قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء»؛ (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
اشكروا الله جل وعلا، واعمُروا بالعمل الصالح حياتَكم، اشكروا الله واعرِفوا قدرَ هذه المواسم.
عظِّموا - رحمكم الله - عَشْرَكم؛ {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، لا تفرطوا في لحظة من هذه العشر.
كل عبادة أمكنكم فِعْلُها، فسارعوا وسابقوا ولا تتأخروا، وكل معصية فاجتنبوها واحذروا ولا تقتربوا.
اجتهدوا في الطاعات فرائضِها ونوافلِها، وابتعدوا عن المنهيات محرماتِها ومكروهاتها.
عليكم بالتبكير للصلوات، والمكوث بعدها، وأداء سُنَنِها، والصيامَ الصيامَ، والقرآنَ القرآنَ، والصدقات، وأعمال البر المتنوعة.
نعم عباد الله:
هذه العشر - بل الحياة كلها - أيام معدودة، سرعان ما تنقضي، ولا يدري أحدنا ما يَعْرِض له فيها؛ فقدِّموا لأنفسكم في دنياكم ما يسُرُّكم أن تَرَوه في أُخراكم: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40].
يا مؤمنون، لئن مضى الحُجَّاج بالأجر والغنيمة، ففضل الله واسع؛ فقد شرع لنا ربُّنا صيامَ يوم عرفةَ، وجعله مُكفِّرًا لذنوب سنتين كاملتين؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسِبُ على الله أن يكفِّرَ السنة التي قبله والسنة التي بعده»، فيوم عرفة يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، فما أعظمه من يومٍ أقسم الله به! فقال: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]؛ قال: «الشاهد يوم الجمعة، واليوم المشهود يوم عرفة» ؛ (حسنه الألباني)،
وما أجلَّه من يوم يباهي الله فيه ويستجيب فيه! فخير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قاله نبيُّنا محمدٌ والنبيون قبله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير؛ فعظِّموا يوم عرفة وصوموه، وحُثُّوا أولادكم وأهليكم، حتى ولو كان عليك قضاء من رمضان؛ قال العلامة ابن العثيمين رحمه الله: من صام يوم عرفة، وعليه قضاء من رمضان، فصيامه صحيح، ولو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء رمضان، حصل له الأجران: أجر يوم عرفة، وأجر القضاء.
أيها المسارع للخيرات، استعدَّ لـيوم عرفة من الآن، اسأل الله أن يرزقك القبول وحلاوة الدعاء فيه، والتوفيق لصيامه، انتظر قدوم هذا اليوم العظيم بشغف وحبٍّ، ألحَّ على الله، اجعله يومًا فاصلًا في حياتك للأفضل، استبشر بكرم الله لك، ادعُ الله، ثم انتظر إجابته بحسن ظنٍّ، وصدقِ يقينٍ.
أيها الكرام:
ذَبْحُ الأضاحي من أعظم شعائر الدين، وهي سُنَّةُ أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهي من أجَلِّ العبادات وأحبها إلى الله تعالى؛ ولما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأضاحي قال: «سُنَّةُ أبيكم إبراهيم»؛ قال العلامة ابن باز رحمه الله: من عادته صلى الله عليه وسلم كل سنة، يضحي بذبيحتين، كبشين أملحين من الغنم، فهي سنة مؤكدة مع الاستطاعة، يضحي الإنسان بواحدة عنه وعن أهل بيته، وعنه وعن زوجته، وأبويه، ونحو ذلك وإن كثروا، وليست واجبة، بل هي سنة مؤكدة مع الاستطاعة.
أما أفضل الأضحية، فهو ما كان كبشًا أملحَ أقرنَ؛ إذ هذا هو الوصف الذي استحبه الرسول وضحى به؛ كما أخرج البخاري ومسلم، وفُسِّر الأملح بأنه الأبيض الذي يخالطه سواد.
عباد الله، لا ينبغي أبدًا للقادر أن يفوِّتَ هذه الفرصة الثمينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره جدًّا للأغنياء أن يُهمِلوا هذه السُّنَّة، إلى درجة أنه قال كما روى ابن ماجه وصححه الألباني: «من كان له سَعَةٌ، ولم يضحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مُصلَّانا».
هنيئًا لمن حج بيت الهدى ** وحط عن النفس أوزارها
وإن السعادة مضمونــــــة ** لمن حلَّ طَيبةَ أو زارهـــا
الحج - أيها المؤمنون - أمنية كل مسلم، وأنس كل مؤمن، وبُلغة كل منقطع لربه، تتقطع القلوب اشتياقًا إليه.
يا حبذا الحج وأيام مِنًى ** ومُصلَّانا وتقبيل الحجر
ومن تمنى بصدق بلوغَ تلك المشاعر العِظام، وترقرقت محاجره متلهفًا، ولم يستطع لذلك سبيلًا لمرضٍ ألمَّ به، وأقعده عن المسير، أو لقلة ذات اليد ولم يستطع لغلاء أسعاره، فإن الله يعذره؛ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، ويبلغه بكرمه أجره: «إن بالمدينة أقوامًا، ما سِرْتُم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر، شاركوكم الأجر»؛ (متفق عليه).
ولكن الخسران والحرمان أن يهدِرَ الإنسان الأموالَ في تنزُّه وسياحة وتوسُّع، ثم يُحْجِم عن الحج، ويرى نفسه مع غير المستطيعين، وأما من أكرمه الله وتيسر له الحج هذا العام، فهنيئا هنيئًا له هذا الفضل وهذا الكرم، وهذا التوفيق الإلهي، فنعم المال الصالح في يد الرجل الصالح.
وأنتم أيها الحجاج الكرام الوافدون لبيت الله، فإنكم ضيوفه، فأقْبِلوا إليه بقلوبكم قبل أبدانكم، وأقيموا حدوده في مشاعره وعظِّموا شعائره: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وأخلِصوا حَجَّكم لله وحده، وابتعدوا عما يشوبه من أدران النفس والهوى.
أيها الحاج، هل يعقل بعد دفع هذه الأموال الكبيرة، وما تعانيه من تعب ومشقة، ووقت ونفقة، وجهد وزحام، هل يعقل أن تضيع كل هذا من أجل رئاء الناس، وقصد المباهاة والمفاخرة، والتطلع للشهرة؟
إن نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام هو أتقى الناس لربه، وأخشاهم له، وأكملهم زكاة لنفسه، وأحرص الناس على حجِّه؛ ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من الرياء والسمعة في حجه؛ كما ثبت عنه أنه حجَّ صلى الله عليه وسلم على رحل رثٍّ وقطيفة خَلَقَة، أو لا تساوي، ثم قال: «اللهم حِجَّةً، لا رياء فيها ولا سمعة»؛ (رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني).
قال رجل لابن عمر: ما أكثر الحجاج! فقال ابن عمر: ما أقلهم، وقال شريح: الحُجَّاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه.
حُجَّاجَ بيت الله:
فريضة الحج ثوابها عظيم، تستحق كل هذا البذل، وتستحق كل هذا التعب، يكفي أنك ترجع طاهرًا نظيفًا من الذنوب؛ وفي الحديث المتفق عليه: «من حجَّ، فلم يرفُثْ، ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمه»؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في معنى هذا الحديث: «فإذا حجَّ الإنسان ولم يفسق ولم يرفث، فإنه يخرج من ذلك نقيًّا من الذنوب، كما أن الإنسان إذا خرج من بطن أمه فإنه لا ذنب عليه، فكذلك هذا الرجل إذا حج بهذا الشرط، فإنه يكون نقيًّا من ذنوبه».
وكذلك استعِدُّوا لهذه الشعيرة بالفقه في أحكامها؛ حتى تعبدوا الله على بصيرة وعلم، وحتى لا تقعوا في أخطاء قد تفسد عليكم حجكم، واتبعوا التوجيهات الأمنية والصحية حتى تؤدُّوا حجكم بيسر وسهولة.
وبعدُ يا عباد الله:
إذا هممتم فبادروا، وإذا عزمتم فثابروا، ومن هاب ركوب الأهوال، قعد عن إدراك الآمال، والعز لا يكون إلا تحت ثوب الكد، ولا يحصل الخطير إلا بالمخاطرة، ولا بَرَدُ العيش إلا بحرِّ التعب، ولا يدرك المفاخِرَ من رَضِيَ بالصف الآخر.
فاللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعنا على أن نقبل بقلوبنا في هذه العشر على طاعتك.
اللهم بلغنا عرفة والعيد سالمين غانمين مقبولين.
اللهم يسِّر للحُجَّاج حَجَّهم، وأعِنْهم على أداء مناسك حجهم، واجعل حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا، وذنبهم مغفورًا.
اللهم إنا نستودعك حجاج بيتك، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم برعايتك.
اللهم سلِّم الحجاج المعتمرين في بَرِّك وجوِّك وبحرك، وأعِدْهم لأهليهم سالمين غانمين بمنِّك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم وفِّق إمامنا وولي عهده بتوفيقك، وارزقهم بطانةً صالحةً ناصحةً، واجزهم خير الجزاء على ما يقدمونه للإسلام والمسلمين، وعلى عمارة بيتك المقدس، وعلى كل ما يبذل للحجاج والمعتمرين.
اللهم تقبل منا صالح العمل، واغفر لنا الذنب والزَّلَل، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
_________________________________________________________
الكاتب: أحمد بن عبدالله الحزيمي