بم نستقبل عشر ذي الحجة؟
سليمان بن جاسر الجاسر
وأيام عشر ذي الحجة خير أيام العام، أيام مباركة أقسم الله بها في كتابه، وبين فضلها رسوله، وجعلها الله تبارك وتعالى فرصةً للمؤمن ليعود إلى ربه ويقرب من خالقه، ويتضاعف له بها الأجر، فبِمَ تُستقبل؟
- التصنيفات: الحث على الطاعات - العشر من ذي الحجة -
أخي المسلم:
إن من حكمة الله تعالى البالغة أن ميَّز بين الأيام والليالي والشهور والساعات؛ كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
فآخر ساعة من يوم الجمعة أفضل من غيرها من ساعات النهار، وساعات الثلث الأخير من الليل أفضل ساعات الليل فيه تتنزل الرحمة وتستجاب فيه المسألة.
وأيام عشر ذي الحجة خير أيام العام، أيام مباركة أقسم الله بها في كتابه، وبين فضلها رسوله، وجعلها الله تبارك وتعالى فرصةً للمؤمن ليعود إلى ربه ويقرب من خالقه، ويتضاعف له بها الأجر، فبِمَ تُستقبل؟
نستقبل عشر ذي الحجة بـ:
1- التوبة الصادقة:
حري بالمسلم أن يستقبل هذه العشر بالتوبة الصادقة، ذلك أنه ما حرم أحد خيرًا إلا بسبب ذنوبه؛ سواء كان خيرًا دينيًّا أم دنيويًّا؛ يقول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ومن أعظم المصائب التي يصاب بها العبد أن يحرم من استغلال هذه المواسم المباركة، فالذنوب هي السبب في حرمان العبد فضل ربه تعالى.
وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة - ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ذكر جزءًا منها العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله - في كتابه:
(الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي):
أولها: حرمانُ العلم، فإن العلم نورٌ يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.
ثانيها: حرمان الرزق: كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»[1]، وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما اسْتُجْلِبَ رزق الله بمثل ترك المعاصي.
ثالثها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهمَّ[2].
قال عبدالله بن عباس بـ: «إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورًا في القلب وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق».
رابعها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه.
قال الحسن البصري - رحمه الله -: «هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم»[3].
وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيءٍ وأهونه.
خامسها: أن العبد لا يزال يرتكب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه؛ وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله.
وقد ذكر البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال به هكذا فطار»[4].
سادسها: أن المعصية تورثُ الذل ولا بُد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله؛ قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي: فليطلبها بطاعة الله؛ فإنه لا يجدها إلا في طاعته.
وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء، والأعمال»[5].
قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت[6] بهم البغال وهملجت[7] بهم البراذين[8]، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال عبدالله بن المبارك - رحمه الله -:
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ *** وقد يورثُ الذُّلَّ إدمانُها
وترك الذنوبِ حياةُ القلـوبِ *** وخيرٌ لنفسِكَ عِصيَانُهَـا
سابعها: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قال: هو الذنب بعد الذنب.
وكما أن للذنوب آثارًا فإن لها عقوبات أيضًا، فمنها:
أولًا: ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خيرٍ، وذهابه ذهاب الخير أجمعه.
وفي الصحيح[9] عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الحياء خير كله».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت»[10].
ثانيًا: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ۞ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19].
ثالثًا: أنها تُزيل النِّعم وتُحل النِّقم.
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
وقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمةٍ فارعَها *** فإن المعاصي تُزيلُ النِّعَمْ
وحُطها بطاعةِ ربِّ العبادِ *** فرَبُّ العبادِ سريعُ النِّقْــــم
رابعًا: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذمِّ والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث.
فهذه أسماء الفسوق، و {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11].
خامسًا: أنها تمحق بركة العُمر، وبركة الرزق، وبركة العلم، وبركة العمل، وبركة الطاعة.
وبالجملة فالذنوب تمحق بركة الدين والدنيا، فلا تجد أقل بركةٍ في عُمره ودينه ودنياهُ ممن عصى الله، وما محقت البركة من الأرض إلا بمعاصي الخلق.
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وفي الحديث: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بطاعته، وإن الله جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحُزن في الشك والسُّخط»[11].
سادسًا: أنها تجرِّئ على العبد من لم يكن يتجرأ عليه من أصناف المخلوقات.
قال بعض السلف - رحمه الله تعالى -: «إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي»؛ ا. هـ [12].
والتوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم؛ لأن الغالب إقبالُ النفوس على الطاعات ورغبتها في الخير، وإذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة في أزمنة فاضلة، فهذا عنوان الفلاح؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67].
2- طلب العون من الله على اغتنام هذه الأيام:
وتستقبل العشر بالعزم الصادق الجاد على اغتنامها وعمارتها بما يرضي الله، فمن جدَّ واجتهد أعانه الله، ومن صدق الله صدقه الله سبحانه وتعالى، وهيَّأ له الأسباب الموصلة إلى الخير وأعانه عليها؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
[1] رواه الإمام أحمد في المسند (5/282).
[2] ادلهمَّ: كثفَ واسوَدَّ؛ انظر اللسان (12/206).
[3] نسبه له ابن الجوزي في (ذم الهوى): وابن القيم في غير كتاب، ورواه ابن بطة في الإنابة (2/293)، ط.الراية عن يحيى بن معاذ الرازي مثله، ورواه أبو نعيم في الحلية (9/261) عن أبي سليمان الداراني.
[4] رواه البخاري (6308).
[5] رواه الترمذي (5/575)، وهو في صحيح الترمذي (2/184).
[6] الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة؛ انظر: اللسان (مادة: طقطق).
[7] الهملجة: حسن سير الدابة في سرعة؛ انظر اللسان (مادة هملج).
[8] البراذين: جم يرذون وهو غير العربي من الخيل والبغال؛ المعجم الوجيز (ص:44).
[9] رواه مسلم (37)، من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه.
[10] رواه البخاري (3483)، من حديث أبي مسعود عقبة - رضي الله عنه.
[11] رواه ابن ماجه (2144).
[12] الداء والدواء لابن القيم - رحمه الله - بتصرف.