مقاصد الحج الكبرى

الحج من أعظم القربات والطاعات التي يتجلى فيها الانقياد التام لله، والمتابعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم،

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة -

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وصحابته أجمعين؛ أما بعد:

فيجب على الحاج أولًا وقبل كل شيء تحري الحلال في حجِّه كله، وفي مطعمه ومأكله، ومشربه وملبسه قبل ذلك، وأن يتحلل من ظلم العباد، وأن يرُدَّ حقوقهم؛ فلربما فاجأته الْمَنِيَّة وهو في طريقه للحج أو في حجِّه؛ لذلك لزم هذا الأمر حتى يحتاط لنفسه.

 

وثانيًا يجب عليه الإخلاص في حجِّه لله تعالى من دون رياء ولا سمعة؛ لأن مدار قبول الأعمال كلها تعتمد على الإخلاص لله، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ القائل: «خذوا عني مناسككم».

 

ولا شكَّ أن المتأمل في الحج ومقاصده العظام يجد هذا واضحًا في أيام الحج وأعماله، كون الحج يتكرر كل عام؛ فهو حريٌّ بالتأمل والتدبُّر وأخذ الدروس والعبر.

 

وبعد التأمل والنظر وجدت للحَجِّ مقاصدَ، منها ما هو منصوص عليها، ومنها ما هو مستنبط، وهي بالجملة مقاصد عظيمة نبيِّنها على سبيل الاختصار؛ وهي إحدى عشرة نقطة.

1- غفران الذنوب ومحو السيئات؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من حَجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه»، فأي مقصدٍ أعظمُ وأجمل وأجَلُّ وأسمى من غفران الذنب، وترجع من حجِّك - أخي الحاج - من ذنوبك، كأنك لم تعمل معصية قط، ولم تقترف جرمًا قط؟

 

وللتنبيه، فإن هذا متعلق بحق الله تعالى، أما حقوق الناس، فلا بد فيها من ردِّ حقوقهم، والتسامح معهم، كما أسلفنا قبل قليل؛ لأن حقوق العباد مبنية على الْمُشاحَّة.

 

2- ذِكْرُ الله تعالى؛ قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]، ويقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما شُرِعَ الطواف والسعي لإقامة ذكر الله تعالى».

 

هذا كله في الحج، والحديث للحج والعمرة، أما عموم الأدلة؛ كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، فالمقصد إذًا بشكل عام هو ذكر الله تعالى في كل نُسُكٍ من مناسك الحج؛ حتى يكون الحاج متصلًا بخالقه، ولا يركن إلى عمله وحَجِّه، بل يجبره بالذكر الخاص والعام، وهكذا.

 

3- توضيح وبيان حقيقة التوحيد والعبودية؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وهذه سمة الإخلاص، وأُسُّ التوحيد وتَرْجُمانه، وخطوطه العريضة، الواجب على كل مسلم اتباعُها والتحلِّي بها.

 

وقوله {لِلَّهِ} جار ومجرور للتعظيم، متعلقان بخبر إنَّ.

 

والنسك جمع نسيكة؛ وهو الذبح، قاله جمع من المفسرين، ويدخل فيه ذَبْحُ الهَدْيِ في الحج.

 

والمعنى: ذبحي في الحج والعمرة، وقيل: هو التقرب بجميع أنواع العبادة لله تعالى، وكله صحيح؛ لأن الذبح نسك، وهو عبادة كذلك.

 

وكل هذه الأعمال هي له حصرًا كمًّا ونوعًا مختصة به سبحانه وتعالى، فلا تُصرَف إلا له.

 

فلا يصح أي عمل كان ما لم يقُمْ على التوحيد الخالص لله تعالى، وهذا هو المقصد العام من دعوة الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام.

 

التوحيد يجعلك واثقًا بربك، مستمسكًا بدينك، واضحًا في وسائلك ومقاصدك كلها.

 

فلا تتعلق بشجر ولا حجر، ولا صنم ولا زعامة، ولا ملك ولا رياسة، فكل ذلك لا يضر ولا ينفع.

 

فهذه تلبية الحاج واضحة بنداء التوحيد الخالص، والتعلق بالله وحده، وصرف كل حَمْدٍ ونعمة وملك له سبحانه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، فالصلاة والذبح، والحياة والموت، كل ذلك لله تعالى.

 

4- تحقيق التقوى؛ قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، ومن سُبُلِ تحقيق التقوى في الحج تعظيم حرماته وشعائره؛ فتعظيمُ شعائر الله تعالى أَمارة على قرب المؤمن من خالقه، ودليل ساطع على تقواه، وذلك مقصد عظيم من مقاصد الحج؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وإذا تأملت مقاصد الصيام والحج، فستجد أن المقصد العظيم منهما تحقيق التقوى، وتهذيب السلوك والأخلاق، وهذه علة منصوصة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

 

5- تهذيب النفس وترويضها على أفضل السلوك والأخلاق؛ قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

 

والرَّفَثُ هو مقدمات الجماع، وقيل: كل كلام سيئ، والفسوق هو كل قول أو فعل يخرجك عن طاعة الله تعالى، والجدال هو الخصومة.

 

فهو بهذا التنبيه والتحذير من المحظورات الثلاثة، هذَّبَ الحاجَّ مع نفسه، ومع زوجه، ومع المجتمع (الحُجَّاج).

 

فهو تربية وتهيئة للنفس، وترويضها على تجنُّب المعصية بمختلف درجاتها وأنواعها، خاصة كانت أم عامة، حتى وأنت في أقدس الأماكن وأشرفها؛ ليقول لك: إن الإنسان بشر، وقد يتعرض لمثل هذا؛ لذلك لزم التعليم والتنبيه، والتحذير والتربية.

 

إنها مدرسة الحج الربانية، وتعليم نبوي كريم.

 

6- التأكيد على وحدة الأمة وترابطها؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

 

لا شكَّ أن العالم الإسلامي يعيش أسوأ حالاته من التفكُّك والتمزُّق وتسلُّط الأعداء عليه، لكن مثل هذا النُّسك يُعِيد الاعتبار، وكأنه يقول: إن هناك أمة موجودة، ويجبر الخاطر، ويعيد الأمل لمن دب في قلبه اليأس أو الإحباط، فكل مسلم قادر يريد الحج، فهو مخاطب بالمجيء إلى هذا البيت، وهذا تأكيد على معنى وحدة الأمة، والبحث عن سبل العزة والمجد لها، وتدارُس مشكلاتها، ووضع حلول يمكن الاستفادة منها.

 

7- الحج يعد بمثابة أكبر تجمع حضاري وعالمي، إن الحج يشكِّل قمة سنوية عالمية إسلامية بامتياز، ومؤتمرًا حضاريًّا تجتمع له الملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض، فالحضارة إنما تتحقق باتصال الشعوب والدول بعضها ببعض؛ حيث يتم التعارف؛ وهذا تعليل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فاللام للتعليل، فيقتبس بعضها من بعض المعرفة والتجارة، والعلم والثقافة والصناعة، وغيرها، وهذا ما يحدث في فريضة الحج.

 

ورغم أنه أكبر تجمُّع كما قلنا، وإن كان مصبوغًا بصبغة تعبُّدية في الأساس، فإنه لم يُغفِل جانب تحصيل المنافع، وما يحتاجه الحاج، فكان بذلك جمعًا بين الدين والدنيا في آن واحد: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33]، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28].

 

قال ابن عباس: "أي منافع الدنيا والآخرة"، أما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والربح والتجارات، ونحو هذا قال مجاهد وغيره.

 

واللام هنا لام العاقبة؛ أي: لتكون عاقبة ذلك أن يشهدوا منافع لهم، ويذكروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

 

8- الانقياد والتسليم، المسلم لا يسمى مسلمًا إلا عندما يستسلم لله وينقاد له، فلا يعترض على أوامره، ولا يرد أحكامه.

 

وإن الحج من أعظم القربات والطاعات التي يتجلى فيها الانقياد التام لله، والمتابعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحاج حينما يؤدي أعمالًا غير معقولة المعنى، لا يدري ما الحكمة منها، تظهر بذلك عظمة إيمانه وتسليمه وانقياده لله تعالى خالصة، دون حظوظ نفس أو مطامع دنيوية.

 

وهنا قصدت بعض الأعمال غير المعقولة المعنى.

 

9- إحياء روح النضال والصبر والجهاد، تتجلى هذه المعاني من الصبر في فريضة الحج؛ ففيها التربية الجهادية في تحمُّل زحام الطواف والسعي ورمي الجمرات، وتشتد هذه التربية والمشاقُّ أول أيام عيد الأضحى؛ حيث يجتمع فيه رمي الجمرات والحلق والتقصير، والنحر والطواف بالبيت، رغم شدة الحر وتعب الجسد.

 

وبالرغم من الصبر والجهاد والتربية في هذا كله، فإن الشرع لم يغفل فئة من الحجاج؛ لظروف قد تطرأ عليهم في الحج، فيحتارون ولا يقدرون أن يفعلوا فِعْلَ الحاجِّ الصحيح القوي؛ لذلك خفف عن الضَّعَفَةِ والمرأة، وأهل السقاية، ومن في حكمهم في المبيت والنفرة، وخفف خاصة عن المرأة الحائض، وأجاز لها أن تصنع كل شيء إلا الطواف تؤخِّره حتى تطهُرَ، كل ذلك مراعاة لظروفها وظروف الضعفاء إجمالًا كما قلنا، وهنا تكمن الرحمة لعباد الله الضعفاء، حتى في أقوى المناسك وأشدها.

 

10- المساواة بين جميع طبقات الشعوب وفئاته، ويبدأ هذا من شروط الحج، فهي على الجميع دون استثناء، ولبس الإحرام وصفًا ومقاسًا، والمبيت والسعي، والطواف والرمي، والحلق أو التقصير، والهدي؛ كل ذلك لجميع الشعوب، ولكل أبيض وأسود، غني وفقير، رئيس ومرؤوس، شريف وغيره؛ ((ألَا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)).

 

موقفهم واحد بصعيد عرفات، وتلبيتهم واحدة، وذهابهم ورجوعهم واحد، إنها الوحدة والمساواة، وإزالة الفوارق الطبقية الجاهلية، وحدة القلوب والمشاعر تتجاوز الجغرافيا؛ لأنه دين رب العالمين.

 

11- لبس الإحرام ولونه يذكِّرك أخي الحاج بمراحل يوم القيامة، فأنت تلبس قطعتين بيضاوين، ليس فيهما قميص ولا عمامة، ولا مخيط ولا سراويل، تُشبِهان قطعة الكفن، وهذا يذكرك بأول منزل من منازل الآخرة؛ علَّك تتذكر وتفكر مليًّا بأن هذا مؤشر وعلامة تذكرك بذلك اليوم؛ حتى تستعد للقاء الله تعالى، ثم الوقوف في صعيد عرفات على أرض ليس فيها مطمع لأحد، ولا تستهوي أحدًا، يقف جميع الحجاج فيها؛ غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، رئيسهم ومرؤوسهم، لا فرق بينهم، كلهم واقفون يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه، وكذلك الحال في عَرَصات القيامة تمامًا يقفون كلهم، لا فرق بينهم، يرجون رحمة الله كذلك، ويخافون عذابه، على أرض بيضاء ليس فيها مَعْلَمٌ لأحد.

 

نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد، وصلى الله على نبينا محمد وصحابته أجمعين.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

____________________________________________________
الكاتب: د. عبدالله محمد البكاري الخديري