حتى يكون حجنا مبرورا

منذ 2024-06-15

ينتشر الجهل بين الحجيج، وتنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج، مما يوجب على العلماء والدعاة القيام بما يجب عليهم من إرشاد، ونصح، وتوجيه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة

رتب الله (تعالى) أجراً عظيماً على الحج المبرور، دل عليه رسوله بقوله:  «... والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»  [1].

والحج المبرور: ما توسع فيه العبد بأعمال الخير، إذ معاني البر تعود إلى معنيين [2] :

1- الإحسان إلى الناس وصلتهم، وضده العقوق، وفي الحديث:  «البر: حسن الخلق»  [3] ، وفي المسند عن جابر مرفوعاً: (قالوا: وما بر الحج يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ قال:  «إطعام الطعام وإفشاء السلام»  [4] .

2- التوسع في الطاعات وخصال التقوى، وضده الإثم؛ ومنه قوله (تعالى):  {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}  [البقرة: 44]، قال القرطبي: (الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي: أنه الحج الذي وفيت أحكامه، ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل) [5] .

وعلى ذلك: فليس كل من حج البيت كان حجه مبروراً، بل الأمر كما قال ابن عمر (رضي الله عنهما) لمجاهد حين قال: (ما أكثر الحاج) قال: (ما أقلهم، ولكن قل: ما أكثر الركب) [6] .

ومن أجل تفاوت الناس في الحج، فسأحاول في هذه السطور ذكر أبرز الأمور التي تعين الحاج، ليكون حجه مبروراً بإذن الله، ومن ذلك:

 أولاً: الإخلاص والمتابعة:

لا صحة ولا قبول للأعمال إلا بما يلي:

1- الإخلاص لله (تعالى) وإرادة وجهه وحده، قال الله (تعالى) في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» [7]، وقد كان يحذر من ضد ذلك، فيدعو مستعيناً بربه قائلاً: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة»  [8] .

2- متابعة العبد للنبي -صلى الله عليه وسلم- في كافة أعماله، قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»  [9] ؛ ولذا: كان يقول في الحج: «لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه»  [10] ، ولقد استوعب الصحابة (رضي الله عنهم) ذلك الأمر، فقال الفاروق حين قبّل الحجر: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استلمك ما استلمتك، فاستلمه) [11] .

 ثانياً: الاستعداد للحج:

تهيئة العبد نفسه واستعداده للحج من أهم الأمور التي تعينه على أداء النسك على الوجه المشروع، وتجعل حجه مبروراً، ولعل أبرز الجوانب التي ينبغي أن يستعد بها المرء للحج ما يلي:

1- إصلاح العبد ما بينه وبين الله (تعالى) بالتوبة النصوح بشروطها المعروفة.

2- الاستعانة بالله (تعالى) وطلب توفيقه، وإظهار الافتقار إليه، والخوف منه، والرجاء فيه، إذ إنه مع أهمية الاستعداد المادي للحج إلا أنه لا يجوز للمرء الركون إلى الوسائل المادية وحدها.

3- تحلل العبد من الحقوق والودائع التي لديه، وقضاء الديون أو استئذان من عُرِف عنه من أصحابها حرص وشدة طلب.

4- كتابة العبد لوصيته؛ إذ السفر مظنة تعرض الإنسان للخطر.

5- إعداد العبد النفقة الكافية لمن يعول إلى وقت رجوعه، ووصيته لهم خيراً، واستخلاف من يقوم بشؤونهم، وذلك حتى يكون همّه متجهاً لأداء النسك.

6- اختيار الراحلة المناسبة، وانتخاب النفقة الطيبة الحلال، لأن النفقة الحرام من موانع الإجابة، عند الطبراني مرفوعاً: (إذا خرج الرجل حاجّاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه من السماء: لبيك وسعديك؛ زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناٍد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور) [12] .

ونحن الآن في زمن تفشت فيه المكاسب الحرام إلا من رحم الله، وكثرت فيه الأموال المشبوهة، فليتق كلّ عبد ربه، وليتذكر قوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»  [13] .

ويستحب للعبد الإكثار من التزود بالنفقة الحلال على وجه يمكنه معه من التوسع في الزاد دون الحاجة إلى الناس، والرفق بالضعفاء.

7- اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه إذا ضعف، وتذكره إذا نسي، وتعلمه إذا جهل، وتأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر. وليحذر العبد من صحبة صنفين:

الصحبة الفاسدة التي تقود إلى المعصية، وتعين على الباطل.

صحبة البطالين الذين يقضون أوقاتهم فيما لا يعود عليهم بالنفع في الآخرة.

8- التفقه في أحكام النسك وآدابه، والتعرف على أحكام السفر، من حيث: القصر، والجمع، والتيمم، والمسح على الخفين... إلخ؛ قال: «من يرد الله به خيراً يفقه في الدين»  [14] .

ومما يعين العبد على ذلك: التزود بما يحتاج إليه من كتب أهل العلم وأشرطتهم، ومصاحبة أهل العلم بالمناسك، وأهل المعرفة بأماكن وأوقات الشعائر.

 ثالثاً: استشعار حقيقة الحج وغاياته:

إدراك العبد لحقيقة الحج، والحكم والأسرار التي شرعت الشعائر من أجلها يهيئه ليكون حجه مبروراً؛ إذ القيام بذلك بمثابة الخشوع في الصلاة، فمن كان فيها أكثر خشوعاً كانت صلاته أكثر قبولاً، وكذلك الحج: كلما استوعب المرء حقيقة الحج، وروحه، والحكم والغايات التي شرع من أجلها، واتخذ ذلك وسيلة لتصحيح عقيدته وسلوكه.. كلما كان حجه أكثر قبولاً وأعظم أجراً واستفادة، ولن يتمكن أحد من ذلك ما لم يقم بتهيئة نفسه، ويستغرق في التأمل والبحث عن أسرار الحج وحكمه، أما من لم يكن كذلك، فيخشى أن يكون عمله مزيجاً من السياحة والمتاعب لا غير.

ولعل من أبرز الحكم والغايات التي ينبغي أن يستشعرها الحاج ما يلي:

1- تحقيق التقوى:

الغاية من الحج تحقيق التقوى، ولذا: نجد ارتباط التقوى بالحج في آيات الحج بشكل واضح جلي، قال (تعالى):  {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ... [البقرة: 196]   {وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..}  [البقرة: 197].

2- تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها:

يرتكز الحج على تجريد النية لله (تعالى) وإرادته بالعمل دون سواه، قال (تعالى)   {وَأََتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}  [البقرة: 196]، وقال (عز وجل) في ثنايا آيات الحج:  {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (30 ) {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ..}  [الحج: 30، 31]: وفي التلبية (وهي شعار الحج) جاء إفراد الله بالنسك صريحاً: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) [15]، كما أن الحج يرتكز على توحيد المتابعة للرسول وعدم الوقوع في شرك الطاعة، إذ لا مجال للتنسك في الشعيرة بالأهواء والعوائد، بل لا بد من التأسي به والأخذ عنه.

3- تعظيم شعائر الله وحرماته:

من أبرز غايات الحج وحكمه تربية العبد على استحسان شعائر الله وحرماته، وإجلالها ومحبتها، والتحرج من المساس بها أو هتكها، قال الله (تعالى) في ثنايا آيات الحج:  {ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}  [الحج: 32]..

4- التربية على الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، ومن ذلك:

(أ) العفة: قال الله (تعالى):  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ..}  [البقرة: 197] والرفث: هو الجماع ودواعيه من القول والفعل.

(ب) كظم الغيظ وترك الجدال والمخاصمة: قال الله (عز وجل):  {ولا جِدَالَ فِي الحَجِ}  [البقرة: 197]، قال عطاء: (والجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه ويغضبك، والأظهر أن المراد بنفي الجدال في الآية: (نفي جنس) مراد به المبالغة في النهي عن الجدال المذموم فقط، وهو النزاع والمخاصمة في غير فائدة شرعية.

(ج) الرفق واللين والسكينة: قال عندما سمع زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل في الدفع من مزدلفة: (أيها الناس: عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع (يعني الإسراع ) [16] .

(د) إنكار الذات والاندماج في المجموعفي الحج ينكر العبد ذاته ويتجرد عما يستطيع أن يخص نفسه به، ويندمج مع إخوانه الحجيج في اللباس والهتاف والتنقل والعمل.

(هـ) التربية على تحمل تبعة الخطأ: ويظهر ذلك جليًّا في الفدية الواجبة على من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام عمداً، وعلى من أخطأ الوقوف بعرفات، أو دفع إلى مزدلفة قبل غروب الشمس... إلخ.

(و) التربية على التواضع: ويظهر ذلك جليّاً في الوحدة بين جميع الحجيج في الشعائر والمشاعر، وإلغاء أثر الفوارق المادية بينهم من لغة ودم ومال... إلخ، وقد كان من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى) [17] .

(ز) التربية على الصبر بأنواعه: حيث يلجم العبد نفسه عن الشهوات بترك محظورات الإحرام، ويمنعها عن بعض المباحات (في غير الإحرام)، ويعرضها للضنك والتعب في سبيل امتثال أوامر الله بأداء النسك وإتمامه؛ فيكون ذلك دافعاً إلى ترك المعاصي، وامتثال الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل ذلك بعد الحج.

ح) البذل والسخاء: وهذا واضح في تحمل العبد لنفقات الحج.

5- التذكير باليوم الآخر:

يُذكّر الحج العبد باليوم الآخر وما فيه من مواقف وأهوال بشكل واضح جلي، ومن ذلك:

* خروجه من بلده ومفارقته لأهله: يذكره بمفارقته لهم حال خروجه من الدنيا إلى الآخرة.

* التجرد من المخيط والخروج من الزينة: يذكره بالكفن وخروج العباد من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.

* الترحال والتعب: يذكرانه بالضيق والضنك في عرصات القيامة، حتى إن من العباد من يلجمه العرق يومئذ إلجاماً.

6- التربية على الاستسلام والخضوع لله (تعالى):

يتربى العبد في الحج على الاستسلام والانقياد والخضوع والطاعة المطلقة لله رب العالمين، سواء في أعمال الحج نفسها، من: التجرد من المخيط، والخروج من الزينة، والطواف، والسعي، والوقوف، والرمي، والمبيت، والحلق (أو التقصير (ونحو ذلك من الأمور التي قد لا تكون جلية المعنى، بل قد تكون إلى الأمر المجرد الذي ليس فيه لنفس العبد حظ ورغبة ظاهرة، أو فيما تحمله تلك الأعمال في طياتها من ذكريات قديمة من عهد إبراهيم (عليه السلام)، وما تلاه من استسلام وخضوع، وإيثار لمحاب الله (تعالى)، ومرضاته على شهوات النفس وأهوائها.


7- تعميق الأخوة الإيمانية، والوحدة الإسلامية:

يجتمع الحجاج على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في مكان واحد، وزمان واحد، بمظهر واحد، وهتاف واحد، لهدف واحد، هو: الإيمان بالله (تعالى)، والامتثال لأمره، والاجتناب لمعصيته، فتتعمق بذلك المحبة بينهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف، والتعاون، والتفكير، والتناصح، وتبادل الخبرات والتجارب، ومشجعاً لهم للقيام بأمر هذا الدين الذي جمعهم، والعمل على الرفع من شأنه.


8- ربط الحجيج بأسلافهم:

تحمل أعمال الحج في طياتها ذكريات قديمة: من هجرة إبراهيم (عليه السلام) وزوجه وابنه الرضيع إلى الحجاز، وقصته حين أُمر بذبح ابنه، وبنائه للبيت، وأذانه في الناس بالحج حتى مبعث نبينا (محمد)، والتذكير بحجة الوداع معه حيث حج معه ما يربو على مئة ألف صحابي، وقال لهم: «خذوا عني مناسككم» ، ثم توالت العصور الإسلامية إلى وقتنا الحاضر حيث تربو أعداد الحجيج على أكثر من ألفي ألف من المسلمين؛ مما يجعل الحاج يتذكر تلك القرون ممن شهد أرض المشاعر قبله، ويتأمل الصراع العقدي الذي جرى بين الموحدين والمشركين فيها، وما بذله الموحدون من تضحية بالأنفس ومتع الحياة من أهل ومال وجاه، وما قام به المشركون من عناد وبغي ودفاع عن مصالح أنفسهم وشهواتها؛ ليدرك أسباب هلاك من هلك ونجاة من نجا، فيحرص على الأخذ بأسباب النجاة، ويعد نفسه امتداداً للناجين من الأنبياء والصالحين، ويحذر من أسباب الهلاك، ويعد نفسه عدوًّا للمجرمين، ويستيقن أن العاقبة للمتقين، ويرى بمضي من حج من تلك الأقوام إلى ربهم أن مصير الجميع واحد، وأنهم كما رحلوا فسيرحل هو، فيعتصم لكي ينجو ويسلم بين يدي الله بالتقوى.
 

9- الإكثار من ذكر الله (تعالى):

المتأمل في شعائر الحج من تلبية وتكبير وتهليل ودعاء... إلخ، وفي نصوص الوحيين التي تتحدث عنه، يجد أن الإكثار من ذكر الله (تعالى) من أبرز حكم الحج وغاياته، ولعل من تلك النصوص قوله (تعالى):  {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ}  [البقرة: 198] وقوله: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله في الأرض»  [18].
 

10- التعود على النظام والتربية على الانضباط:

في الحج قيود وحدود والتزام وهيئات لا يجوز للحاج الإخلال بها، تعوده حب النظام والمحافظة عليه، وتربيه على الانضباط بامتثال الأمر وترك النهي، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة جلية.
 

11- منافع أخرى:

ومنافع أخرى دنيوية وأخروية، فردية وجماعية، تجل عن الحصر، يدل عليها تنكير المنافع، وإبهامها في قوله (عز وجل):  {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}  [الحج: 28] نسأل الله (تعالى) أن يهيء لنا من أمرنا رشداً وأن يكتب لنا منها أوفر الحظ والنصيب.
 

 رابعاً: الحذر من مقارفة المعاصي والوقوع في الأخطاء:

لا يحصل للعبد بر الحج إلا بمجانبة المعاصي والحذر منها، ومع أن مقارفة الذنوب والمعاصي مَنْهِيّ عنها في كل وقت، إلا أن الله (تعالى) أمر مَن حج بتركها، فقال (عز وجل):  {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ}  [البقرة: 197] وذلك لشرف الزمان وعظمة المكان، قال (تعالى):  {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}  [الحج: 25] فكيف يكون جزاء من فعل وقارف ؟ !

والمتأمل في واقع الناس في الحج يجد الكثير من المنكرات والأخطاء الناتجة عن: ضعف الخوف من الله، وعدم مراعاة حرمة الزمان والمكان، الناتجة عن الجهل بالشرع واتباع الأعراف والعوائد، ولعل من أبرز ما يتفشى في الحج من المنكرات والأخطاء: ارتكاب محظورات الإحرام عمداً بغير عذر وأذية المسلمين بالقول والفعل، وترك التناصح والأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وتأخير الصلاة عن وقتها، والغيبة، والنميمة، واللغو، والجدال، وقيل وقال، والإسراف أو التقتير في النفقة، والعبث بالأطعمة، وسوء الخلق، والتهاون في الذنوب: كإطلاق النظر، والاستماع إلى ما لا يحل، ومزاحمة النساء للرجال، وكشفهن لما لا يجوز كشفه، والتعجل أو التأخر عند أداء المناسك في الأوقات الشرعية المحددة لها، وعدم مراعاة حدود الأمكنة التي لا يجزئ أداء أعمال الحج خارجها... إلخ.

فما أغبن من بذل نفسه وماله وبدل حاله وجماله فيرجع بالمحرمات وغضب الرحمن، قال الشاعر:

يحج لكيما يغفر الله ذنبه      ويرجع وقد حطت عليه ذنوب  
 

 خامساً: الاجتهاد في الطاعة واستغلال الوقت:

وردت في ثنايا آيات الحج إشارات تحث العبد على الاستكثار من الطاعات وقت أداء النسك، ومن ذلك قوله (عز وجل):  {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}  [البقرة: 197] ولعل من أهم الطاعات التي ينبغي أن يستكثر منها العبد ويشغل بها وقته أثناء النسك:

1- أعمال القلوب: من: إخلاص، ومحبة، وتوكل، وخوف، ورجاء، وتعظيم، وخضوع، وإظهار افتقار، وصدق في الطلب والمسألة، وتوبة، وإنابة، وصبر، ورضا وطمأنينة... ونحو ذلك من أهم ما ينبغي أن ينشغل به العبد في حجه، إذ مدار الإسلام عليها، قال ابن القيم: (ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها) [19] .

2- قراءة القرآن والذكر والاستغفار: وقد أمر الله الحجيج بالذكر والاستغفار في ثنايا آيات الحج، وقال حاثًّا على التلبية والذكر: (ما أهل مهل ولا كبر مكبر قط إلا بُشّر) [20] وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل: (أي الحاج أفضل ؟ قال: «أكثرهم لله ذكراً»  [21] .

3- بذل المعروف: قال ابن رجب: (ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج: ما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا جُرَيّ الهجيمي فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شِسْع النعل، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك المسلم فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوَحشان في الأرض»  [22] وفي الحديث الآخر: قيل: يا رسول الله، من أحب الناس إلى الله ؟ قال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس».

4- الدعوة إلى الله (عز وجل): ينتشر الجهل بين الحجيج، وتنتشر بدع ومنكرات وأخطاء كثيرة في الحج، مما يوجب على العلماء والدعاة القيام بما يجب عليهم من إرشاد، ونصح، وتوجيه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، قال شجاع بن الوليد: (كنت أحج مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً) [23] .

5- الدعاء والمسألة: الحج من مواسم المسألة والدعاء العظيمة التي ينبغي استغلالها والتضرع بين يدي الله فيها، قال: «خير الدعاء دعاء عرفة» [24] وقال: (الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم) [25] .

 سادساً: الاستقامة.. الاستقامة:

ودليل الحج المبرور استقامة المسلم بعد الحج، ولزومه الطاعة وتركه للمعصية، قال الحسن البصري: (الحج المبرور: أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، ويشهد لذلك قوله (تعالى):  {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}  [محمد: 17].

فلتحذر أخي من أن تهدم ما بنيت، وتشتت ما جمعت، وتبدد ما حَصّلت، فتنتكس بعد الاهتداء، وترتكس بعد النقاء.

وتذكر أن الحج يهدم ما قبله من ذنوب، وأنك بحجك ترجع كيوم ولدتك أمك، فإياك أن تقابل الله بعد هذه النعمة بالمعصية، و افتح صفحة جديدة من حياتك مع الله (عز وجل) ملؤها الطاعة، وعنوانها الاستقامة.. والله يتولاني وإياك.


(1) البخاري مع الفتح، ح / 1773.

(2) انظر: لطائف المعارف، ص410.

(3) مسلم، ح / 2553.

(4) انظر: الفتح، ج4 ص446.

(5) فتح الباري، ج3 ص446.

(6) مصنف عبدالرزاق، ح / 8836، وانظر: أنوار الحج للقاري ص55.

(7) مسلم، ح / 2985.

(8) ابن ماجة، ح / 2890، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة ح / 1718.

(9) مسلم، ح / 1718.

(10) مسلم، ح / 1297.

(11) البخاري مع الفتح، ح / 1610.

(12) المعجم الأوسط للطبراني، ح / 5224، وجاء في مجمع الزوائد: (وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف) (ج10 ص 292).

(13) مسلم، ج2ص703.

(14) البخاري مع الفتح، ح / 71.

(15) البخاري مع الفتح، ح / 1549.

(16) البخاري، ح / 1671.

(17) انظر: لطائف المعارف، ص411.

(18) الترمذي، ح / 902.

(19) بدائع الفوائد، ج3 ص330.

(20) المعجم الأوسط للطبراني، ح / 7775، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، ح / 5569.

(21) المسند، ج3 ص438، وهو ضعيف.

(22) لطائف المعارف، ص411.

(23) سير أعلام النبلاء، ج 7 ص259.

(24) الترمذي: ح / 3585، وانظر: صحيح سنن الترمذي، ح / 837، والجواب الكافي، ص101.

(25) انظر: صحيح الجامع، ح / 3173، وقال الألباني: حسن.

_________________________________________________
الكاتب: 
فيصل بن علي

  • 0
  • 0
  • 324

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً