أقطار السماوات والأرض
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
هذه الآية الكريمة جاءت قرب نهاية النصف الأول من سورة الرحمن، التي سمّيت بتوقيف من الله تعالى بهذا الاسم الكريم لاستهلالها باسم الله الرحمن، ولما تضمنته من لمسات رحمته، وعظيم آلائه التي أولها تعليم القرآن، ثم خلق الإنسان وتعليمه البيان.
وقد استعرضت السورة عدداً من آيات الله الكونية المبهرة للاستدلال على عظيم آلائه، وعميم فضله على عباده ومنها: جريان كل من الشمس والقمر بحساب دقيق (كرمز لدقة حركة كل أجرام السماء بذاتها، وفي مجموعاتها، وبجزيئاتها، وذراتها، ولبناتها الأولية) وسجود كل مخلوق لله، حتى النجم والشجر، ورفع السماء بغير عمد مرئية، ووضع ميزان العدل بين الخلائق، ومطالبة العباد بألا يطغوا في الميزان، وأن يقيموا عدل الله في الأرض، ولا يفسدوا هذا الميزان.
وخلق الأرض وتهيئتها لاستقبال الحياة، وفيها من النباتات وثمارها، ومحاصيلها ما يشهد على ذلك، وخلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، وتكوير الأرض وإدارتها حول محورها، والتعبير عن ذلك بوصف الحق تبارك وتعالى بأنه رب المشرقين ورب المغربين، ومرج كل نوعين من أنواع ماء البحار دون اختلاط تام بينهما، وإخراج كل من اللؤلؤ والمرجان منهما.
وجري السفن العملاقة في البحر، وهي تمخر عباب الماء وكأنها الجبال الشامخات، وحتمية الفناء على كل المخلوقات، مع الوجود المطلق للخالق سبحانه وتعالى، صاحب الجلال والإكرام، الحي القيوم الأزلي بلا بداية، والأبدي بلا نهاية، والإشارة إلى مركزية الأرض من الكون، وضخامة حجمها التي لا تمثل شيئاً في سعة السماوات وتعاظم أبعادها، وذلك بتحدي كل من الجن والإنس أن ينفذوا من أقطارهما، وتأكيد أنهم لن يستطيعوا ذلك أبداً، إلا بسلطان من الله، وأن مجرد محاولة ذلك بغير هذا التفويض الإلهي سوف يعرض المحاول لشواظ من نار ونحاس فلا ينتصر في محاولته أبدًا.
ثم يأتي الحديث عن الآخرة وأحوالها، ومنها انشقاق السماء على هيئة الوردة المدهنة، كالمهل الأحمر ومنها معرفة المجرمين بعلامات في وجوههم (من الزرقة والسواد) وما سوف يلاقونه من صور الإذلال والمهانة، وهم يطوفون بين جهنم وبين حميمٍ آن (أي ماء في شدة الغليان) وعلى النقيض من ذلك تشير السورة الكريمة إلى أحوال المتقين، ومقامهم في جنات الخلد، جزاء إحسانهم في الدنيا، وتصف جانباً مما في هذه الجنات من نعيم.
وبين كل آية من آيات الله في هذه السورة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم: «عروس القرآن» (الألباني: ضعيف الجامع: 4729، ضعيف). لما لخواتيم آياتها من جرس رائع، نجد آية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} التي ترددت في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة من مجموع آيات السورة الثماني والسبعين (أي بنسبة40% تقريباً) في تقريع شديد، وتبكيت واضح للمكذبين من الجن والإنس بآلاء الله وأفضاله وعلى رأسها دينه الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم..
والذي لا يرتضي ربنا تبارك وتعالى من عباده ديناً سواه بعد أن حفظه للناس كافة في القرآن الكريم، وفي سنة الرسول الخاتم بنفس لغة الوحي على مدى أربعة عشر قرناً وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتختتم السورة بقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].
والإشارات الكونية في سورة الرحمن، والتي يفوق عددها السبع عشرة آية صريحة نحتاج في شرح كل آية منها إلى مقال مستقل، ولذلك سأقف هنا عند قول الحق تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 33- 35]. وقبل ذلك لابد من استعراض الدلالات اللغوية لألفاظ تلك الآيات الكريمات وأقوال المفسرين السابقين فيها.
الدلالة اللغوية:
(1) (نفذ): يقال في العربية: نَفَذَ السهم في الرمية (نفوذاً) و(نفاذاً)، والمثقب في الخشب إذا خرق إلى الجهة الأخرى، و(نفذ) فلان في الأمر (ينفذ) (نفاذاً)، و(أنفذه) (نفاذاً)، و(نفذه) (تنفيذاً)، وفي الحديث الشريف: «انفذوا جيش أسامة» (ابن تيمية، المصدر: منهاج السنة، الصفحة أو الرقم: 5/485، خلاصة حكم المحدث: هذا من الكذب المتفق على أنه كذب). والأمر(النافذ) أي المطاع، و(المنفذ) هو الممر(النافذ)، قال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} بمعنى أن تخرقوا السماوات والأرض من جهة أقطارها إلى الجهة الأخرى.
(2) (أقطار): قطر كل شكل وكل جسم الخط الواصل من أحد أطرافه إلى الطرف المقابل مروراً بمركزه، قال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال عز من قائل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا} [الاحزاب: 14]. ويقال في اللغة: (قطرته) بمعنى ألقيته على (قطره)، و(تقطر) أي وقع على (قطره) ومنه (قطر) المطر أي: سقط في خطوط مستقيمة باتجاه مركز الأرض، ويسمى لذلك (قطراً)، وهو كذلك جمع (قطرة)، و(قطر) و(تقطير) الشيء تبخيره ثم تكثيفه قطرة قطرة من أجل تنقية الماء وغيره من السوائل، تساقطه (قطرة) (قطرة) وجمعه (قُطُر) بضمتين و(قُطُرات) بضمتين أيضاً.
و(قطره) غيره يتعدى ويلزم، و(تقاطر) القوم جاءوا أرسالاً (كالقطر)، ومنه (قطار الإبل) و(القُطر) بالضم الناحية والجانب وجمعه (أقطار) و(قطران) الماء (تقاطره) قطرة قطرة و(القطران) ما يتقطر من الهناء (القار) و(قطر) البعير طلاه (بالقطران) فهو (مقطور) أو(مقطرن) قال تعالى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50]. أي من القار، وقرئ (من قطران) أي من نحاس منصهر قد أني (أي عظم) حره (أي زادت درجة حرارته) لأن (القطر) هو النحاس. وقال ربنا تبارك وتعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96]. أي نحاساً منصهراً.
(3) شواظ: (الشواظ) في العربية (بضم الشين وكسرها) اللهب الذي لادخان له.
(4) نحاس: الأصل في اللغة العربية أن النحاس هو اللهب بلادخان، والنحاس أيضاً عنصر فلزي لونه يميل إلى الحمرة (بين القرمزي والبرتقالي) قابل للطرق والسحب، موصل جيد لكل من الكهرباء والحرارة، ومقاوم للتآكل، وقد سمي بهذا الاسم لتشابه لونه مع لون النار بلا دخان.
قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35].
و(النحس) ضد السعد، وقرئ في قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} [القمر: 19].
على الصفة، والإضافة أكثر وأجود {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ} ويقال: (نحس) الشيء فهو (نحس) وفيه جاء قول ربنا تبارك وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16]. وقرئ ﴿نَّحِسَاتٍ﴾ بالفتح أي مشؤومات، أو شديدات البرد، وأصل النحس أن يحمرّ الأفق فيصير كالنحاس أو كاللهب بلا دخان، فصار ذلك مثلاً للشؤم.
أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 33ـ 35].
ذكر ابن كثير -يرحمه الله-: "أي لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم.." ﴿إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ أي إلا بأمر الله، ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} قال ابن عباس: "الشواظ هو لهب النار" وعنه: "الشواظ الدخان" وقال مجاهد: "هو اللهب الأخضر المنقطع، وقال الضحاك: "{شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} سيل من نار"
وقوله تعالى: {وَنُحَاسٌ} قال ابن عباس: "دخان النار" وقال ابن جرير: "والعرب تسمي الدخان نحاساً" روى الطبراني عن الضحاك: "أن نافع ابن الازرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه، قال: صدقت. فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له" وقال مجاهد: "النحاس الأصفر".
وجاء في تفسير الجلالين ما نصه: "{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ} تخرجوا {مِنْ أَقْطَارِ} نواحي {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هاربين من الحشر والحساب والجزاء {فَانفُذُواْ} أمر تعجيز أي: فلن تستطيعوا ذلك {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} بقوة، ولا قوة لكم على ذلك {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} هو لهبها الخالص من الدخان أو معه {وَنُحَاسٌ} أي: دخان لا لهب فيه أو هو النحاس المذاب...".
وجاء في الظلال ما نصه: "{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ} وكيف؟ وأين؟ {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان.."
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}؟ وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟ ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها، والتهديد الرعيب يلاحقهما، والمصير المردي يتمثل لهما: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ}
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه: "{لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} أي لا تقدرون على الخروج من أمري وقضائي إلا بقوة قهر وأنتم بمعزل عن ذلك {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} يصب عليكما {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} لهب خالص من الدخان {وَنُحَاسٌ} أصفر مذاب، وقيل النحاس: الدخان الذي لا لهب فيه. أي أنه يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة".
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: "يا معشر الجن والإنس ان استطعتم ان تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين فاخرجوا، لا تستطيعون الخروج إلا بقوة وقهر، ولن يكون لكم ذلك، فبأي نعمة من نعم ربكما تجحدان؟! يصب عليكما لهب من نار ونحاس مذاب، فلا تقدران على رفع هذا العذاب".
وجاء في تعليق هامشي ما يلي: "ثبت حتى الآن ضخامة المجهودات والطاقات المطلوبة للنفاذ من نطاق جاذبية الأرض، وحيث اقتضى النجاح الجزئي في ريادة الفضاء -لمدة محددة جداً بالنسبة لعظم الكون- بذل الكثير من الجهود العلمية الضخمة في شتى الميادين.. فضلاً عن التكاليف المادية الخيالية التي انفقت في ذلك ومازالت تنفق، ويدل ذلك دلالة قاطعة على أن النفاذ المطلق من أقطار السماوات والأرض التي تبلغ ملايين السنين الضوئية لإنس أو جن مستحيل".
والنحاس هو فلز يعتبر من أول العناصر الفلزية التي عرفها الإنسان، ويتميز بأن درجة انصهاره مرتفعة جداً نحو1083 درجة مئوية، فإذا ما صب هذا السائل الملتهب على جسد، مثل ذلك صنفاً من أقسى أنواع العذاب ألماً وأشدها أثراً.
الدلالة العلمية لقول الحق تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 33ـ 35]. هذه الآيات الثلاث التي تحدى القرآن الكريم فيها كلاً من الجن والإنس تحدياً صريحاً بعجزهم عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض، وهو تحد يظهر ضآلة قدراتهما مجتمعين أمام طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الكون، لضخامة أبعاده، ولقصر عمر المخلوقات، وحتمية فنائها، والآيات بالإضافة إلى ذلك تحوي عدداً من الحقائق الكونية المبهرة التي لم يستطع الإنسان إدراكها إلا في العقود القليلة المتأخرة من القرن العشرين، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولاً: بالنسبة للنفاذ من أقطار الأرض:
إذا كان المقصود من هذه الآيات الكريمة إشعار كل من الجن والإنس بعجزهما عن النفاذ من أقطار كل من الأرض على حدة، والسماوات على حدة، فإن المعارف الحديثة تؤكد ذلك، لأن أقطار الأرض تتراوح بين (12756) كيلو متراً بالنسبة إلى متوسط قطرها الاستوائي، (12713) كيلو متراً بالنسبة إلى متوسط قطرها القطبي، وذلك لأن الأرض ليست تامة الاستدارة لا نبعاجها قليلاً عند خط
الاستواء، وتفلطحها قليلاً عند القطبين، ويستحيل على الإنسان اختراق الأرض من أقطارها لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز مما لا تطيقه القدرة البشرية، ولا التقنيات المتقدمة التي حققها إنسان هذا العصر.
فعلى الرغم من التطور المذهل في تقنيات حفر الآبار العميقة التي طورها الإنسان بحثاً عن النفط والغاز الطبيعي فإن هذه الأجهزة العملاقة لم تستطع حتى اليوم تجاوز عمق14 كيلو متراً من الغلاف الصخري للأرض، وهذا يمثل0.2% تقريباً من طول نصف قطر الأرض الاستوائي، وعند هذا العمق تعجز أدوات الحفر عن الاستمرار في عملها لتزايد الضغط وللارتفاع الكبير في درجات الحرارة إلى درجة قد تؤدي إلى صهر تلك الأدوات، فمن الثابت علمياً أن درجة الحرارة تزداد باستمرار من سطح الأرض في اتجاه مركزها حتى تصل إلى ما يقرب من درجة حرارة سطح الشمس المقدرة بستة آلاف درجة مئوية حسب بعض التقديرات.
ومن هنا كان عجز الإنسان عن الوصول إلى تلك المناطق الفائقة الحرارة والضغط، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى مخاطباً الإنسان: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37].
ولو أن الجن عالم غيبي بالنسبة لنا، إلا أن ما ينطبق على الإنس من عجز تام عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض ينطبق عليهم، والآيات الكريمة قد جاءت في مقام التشبيه بأن كلاً من الجن والإنس لا يستطيع الهروب من قدر الله أو الفرار من قضائه، بالهروب إلى خارج الكون عبر أقطار السماوات والأرض، حيث لا يدري أحد ماذا بعد ذلك، إلا أن العلوم المكتسبة قد أثبتت بالفعل عجز الإنسان عجزاً كاملاً عن ذلك، والقرآن الكريم يؤكد لنا اعتراف الجن بعجزهم الكامل عن ذلك أيضاً، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} [الجن: 12]. وذلك بعد أن قالوا: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8].
ثانياً: بالنسبة للنفاذ من أقطار السماوات:
تبلغ أبعاد الجزء المدرك من السماء الدنيا من الضخامة ما لا يمكن أن تطويها قدرات كل من الإنس والجن، مما يشعر كلاً منهما بضآلته أمام أبعاد الكون، وبعجزه التام عن مجرد التفكير في الهروب منه، أو النفاذ إلى المجهول من بعده..! فمجرتنا -سكة التبانة- يقدر قطرها الأكبر بمائة ألف سنة ضوئية (100.000×9.5 مليون مليون كيلومتر تقريباً)، ويقدر قطرها الأصغر بعشرة آلاف سنة ضوئية (10.000×9.5 مليون مليون كيلومتر تقريباً)، ومعنى ذلك أن الإنسان لكي يتمكن من الخروج من مجرتنا عبر قطرها الأصغر يحتاج إلى وسيلة تحركه بسرعة الضوء -وهذا مستحيل- ليستخدمها في حركة مستمرة لمدة تصل إلى عشرة آلاف سنة من سنيننا، وبطاقة انفلات خيالية لتخرجه من نطاق جاذبية الأجرام التي يمر بها من مكونات تلك المجرة..!
وهذه كلها من المستحيلات بالنسبة للإنسان الذي لا يتجاوز عمره في المتوسط خمسين سنة، ولم تتجاوز حركته في السماء ثانية ضوئية واحدة وربع الثانية فقط، وهي المسافة بين الأرض والقمر، على الرغم من التقدم التقني المذهل الذي حققه في ريادة السماء، ومجموعتنا الشمسية تقع من مجرتنا على بعد ثلاثين ألفاً من السنين الضوئية من مركزها، وعشرين ألفاً من السنين الضوئية من أقرب أطرافها.
فإذا حاول الإنسان الخروج من أقرب الأقطار إلى الأرض فإنه يحتاج إلى عشرين ألف سنة وهو يتحرك بسرعة الضوء لكي يخرج من أقطار مجرتنا، وهل يطيق الإنسان ذلك؟ أو هل يمكن أن يحيا إنسان لمثل تلك المدد المتطاولة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يتحرك بسرعة الضوء؟ كل هذه حواجز تحول دون إمكان ذلك بالنسبة للإنسان، وما ينطبق عليه ينطبق على عالم الجان..!
ومجرتنا جزء من مجموعة من المجرات تعرف باسم المجموعة المحلية يقدر قطرها بنحو ثلاثة ملايين وربع المليون من السنين الضوئية (3.261.500) سنة ضوئية، وهذه بدورها تشكل جزءاً من حشد مجريّ يقدر قطره بأكثر من ستة ملايين ونصف المليون من السنين الضوئية (6.523.000) سنة ضوئية، وهذا الحشد المجري يكون جزءاً من الحشد المجري الأعظم ويقدر قطره الأكبر بمائة مليون من السنين الضوئية، وسمكه بعشرة ملايين من السنين الضوئية.
وتبدو الحشود المجرية العظمي على هيئة كروية تدرس في شرائح مقطعية تقدر أبعادها في حدود 150،100،15 سنة ضوئية، وأكبر تلك الشرائح ويسميها الفلكيون مجازاً باسم الحائط العظيم يزيد طولها على مائتين وخمسين مليوناً من السنين الضوئية، وقد تم أخيراً اكتشاف نحو مائة من الحشود المجرية العظمى تكون تجمعاً أعظم على هيئة قرص يبلغ قطره الأكبر بليونين من السنين الضوئية،
والجزء المدرك من الكون وهو يمثل جزءاً يسيراً من السماء الدنيا التي زينها ربنا تبارك وتعالى بالنجوم، وقال عز من قائل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5].
هذا الجزء المدرك من السماء الدنيا يزيد قطره على العشرين بليون سنة ضوئية، وهي حقائق تجعل الإنسان بكل إنجازاته العلمية يتضاءل تضاؤلاً شديداً أمام أبعاد الكون المذهلة، وكذلك الجان، وكلاهما أقل من مجرد التفكير في إمكان الهروب من ملك الله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه..!
ثالثاً: بالنسبة للنفاذ من أقطار السماوات والأرض معاً:
تشير الآيات الكريمة إلى أن التحدي الذي تجابه به الجن والإنس هو النفاذ من أقطار السماوات والأرض معاً إن استطاعوا، وثبت عجزهما عن النفاذ من أقطار أي منهما، وعجزهما أشد إذا كانت المطالبة بالنفاذ من أقطارهما معاً، إذا كان هذا هو مقصود الآيات الكريمة، فإنه يمكن أن يشير إلى معنى في غاية الأهمية ألا وهو توسط الأرض للكون، وهو معنى لا تستطيع علوم الفلك إثباته لعجز الإنسان عن الإحاطة بأبعاد الكون.
ولكن يدعم هذا الاستنتاج ما رواه كل من قتادة، والسدي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوماً لأصحابه: «هل تدرون ما البيت المعمور؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: «فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم».
وتوسط الأرض للكون معنى حارت فيه عقول العلماء والمفكرين عبر التاريخ، وعجزت العلوم المكتسبة والتقنيات الفائقة عن إثباته، ولكن ما جاء في هذه الآيات الكريمة، وفي هذا الحديث النبوي الشريف يشير إليه، ويجعل المنطق السوي يقبله.
رابعًا:
بالنسبة إلى إرسال شواظ من نار ونحاس على كل من يحاول النفاذ من أقطار السماوات والأرض بغير سلطان من الله تعالى: في الآية رقم 35 من سورة الرحمن يخاطب ربنا تبارك وتعالى كلاً من الجن والإنس بقوله عز من قائل: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} وقد أجمع قدامى المفسرين ومحدثوهم على أن لفظة شواظ هنا تعني: اللهب الذي لا دخان له.
وكلمة نحاس تعني: الدخان الذي لا لهب فيه أو تعني فلز النحاس الذي نعرفه جميعاً وهو فلز معروف بدرجة انصهاره العالية (1083م) ودرجة غليانه الأعلى (2567م). ومن الثابت علمياً أن العناصر المعروفة لنا تتخلق في داخل النجوم بعملية الاندماج النووي لنوى ذرات الهيدروجين فينتج عن ذلك نوى ذرات العناصر الأثقل بالتدريج حتى يتحول لب النجم إلى حديد.
والتفاعل النووي قبل تكون ذرات الحديد هو تفاعل منتج للحرارة التي تصل إلى بلايين الدرجات المئوية، ولكن عملية الاندماج النووي المنتجة للحديد عملية مستهلكة للحرارة، وبالتالي لطاقة النجم حتى تضطره إلى الانفجار، مما يؤدي إلى تناثر العناصر التي تكونت بداخله بما فيها الحديد في صفحة السماء، لتدخل هذه العناصر في مجال جاذبية أجرام تحتاج إليها بتقدير من الله تعالى.
أما العناصر ذات النوى الأثقل من ذرة الحديد فتتخلق بإضافة اللبنات الأولية للمادة إلى نوى ذرات الحديد السابحة في صفحة السماء، حتى تتكون بقية المائة وخمسة من العناصر المعروفة لنا، وهذه أيضاً تنزل إلى جميع أجرام السماء بقدر معلوم، ولما كان عنصر النحاس أعلى من الحديد في كل من وزنه وعدده الذري، الوزن الذري لنظائر الحديد (57، 56، 54) والوزن الذري للنحاس (63.546) والعدد الذري للحديد (26) بينما العدد الذري للنحاس (29)، وبناء على ذلك فإن عنصر النحاس يتخلق في صفحة السماء الدنيا باندماج نوى ذرات الحديد مع بعض اللبنات الأولية للمادة، وهذا يجعل صفحة السماء الدنيا زاخرة بذرات العناصر الثقيلة ومنها النحاس.
هذه الملاحظة تشير إلى أن لفظة نحاس في الآية الكريمة تعني فلز النحاس، لأن التأويل هنا لا داعي له على الإطلاق، فالنحاس وهو منصهر وتغلي قطراته في صفحة السماء يعد عقاباً رادعاً لكل محاولة إنسية أو جنية لاختراق أقطار السماوات والأرض.
وقد اتصل بي أخ كريم هو الدكتور: (عبد الله الشهابي) وأخبرني بأنه زار معرض الفضاء والطيران في مدينة واشنطن دي سي، الذي يعرض نماذج الطائرات من بداياتها الأولى إلى أحدثها، كما يعرض نماذج لمركبات الفضاء، وفي المعرض شاهد قطاعاً عرضياً في كبسولة أبو اللو، وأذهله أن يرى على سطحها خطوطاً طولية عديدة غائرة في جسم الكبسولة ومليئة بكربونات النحاس (جنزار النحاس).
وقد لفتت هذه الملاحظة نظره فذهب إلى المسئول العلمي عن تلك الصالة وسأله: "هل السبيكة التي صنعت منها الكبسولة يدخل فيها عنصر النحاس؟" فنفى ذلك نفياً قاطعاً، فأشار إلى جنزار النحاس على جسم الكبسولة وسأله: "من أين جاء هذا؟" فقال له: "من نوى ذرات النحاس المنتشرة في صفحة السماء التي تضرب جسم الكبسولة طوال حركتها صعوداً وهبوطاً من السماء، وحينما تعود إلى الأرض وتمر بطبقات بها الرطوبة وثاني أكسيد الكربون فإن هذه الذرات النحاسية التي لصقت بجسم الكبسولة تتحول بالتدريج إلى جنزار النحاس".
ويقول الدكتور الشهابي: "إنه على الفور تراءت أمام أنظاره الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ}.
هذه الملاحظة أكدت لي ما ناديت به طويلاً بأن لفظة نحاس في الآية تعني فلز النحاس ولا تحتاج إلى أدنى تأويل، فسبحان الذي أنزل هذه الآيات الكريمة من قبل 1400 من السنين وحفظها لنا في كتابه الكريم على مدى 14 قرناً أو يزيد لتظهر في زماننا، زمان رحلات الفضاء برهاناً مادياً ملموساً على أن هذا القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وأن النبي الخاتم الذي تلقاه صلى الله عليه وسلم كان موصولاً بالوحي ومعلماً من قبل خالق السماوات والأرض.
- التصنيف: