اللغة العربية: هوية مهددة
اللغة العربية: هوية مهددة، فكر منقرض، وانتماء ضائع رحلة فكرية مع اللغة العربية
الحاج سكر أطلق على محله الصغير في الحي الشعبي اسم "شوجر" عندما وجد جاره شحته الترزي أطلق على محله اسم "شحته كاجوال".
هذه الصورة الانهزامية تفشت في جميع ربوع وطننا العربي
أضف إليها الثنائية اللغوية في التعليم العربي حيث يتم تعليم اللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية في المراحل العمرية الأولى وهي مراحل الاكتساب اللغوي، فضلا سطوة العامية الركيكة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. بالإضافة إلى قلة الإنتاج العلمي المكتوب بالعربية ، بخلاف الرطانة بالأعجمية من أجل الاستعلاء الثقافي على الآخرين، سوري، اوكاى... وهكذا
هذه الصور النمطية الهزلية المنتشرة في مجتمعنا العربي تعبر عن تراجع وانهزام اللغة العربية إزاء اللغات الأجنبية، وذلك التراجع خطير وله أبعاد سلبية، لأنه يجعل اللغة في تقدير أبنائها في درجة ثانوية، فيؤدي ذلك إلى أضرار جسيمة على الفكر والهوية والتماسك الاجتماعي.
أما تأثير ضعف اللغة على الفكر:
فذلك لأن اللغة ترتبط بالفكر ارتباط عضوي كلاهما شرط وجودي للاخر، وليست اللغة مجرد وعاء لنتائج الفكر فقط، وهناك نسبة طردية بين قوة اللغة وقوة القدرات العقلية واتساعها، والقدرة على تعلم اللغة والقدرة على التفكير هما من خصائص الإنسان التي تميزة عن باقي المخلوقات.
في القرن الماضي وأثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر والفرنسي للجزائر احتارت فرنسا وانجلترا في سر تفوق الطفل العربي واتساع قدراته العقلية، فعقدوا مؤتمر لهذا الشأن فوجدوا أن السر في اللغة العربية نظرا لاتساع مفرداتها عن مفردات اللغة الفرنسية والإنجليزية. فوضعوا خططهم لتهميش العربية وإضعافها.
وقد سمعت من أستاذي د. سعيد أنه كان له صديق مثقف اتفق هو وزوجته على التحدث أمام أبنائهما بالفصحى فوجدا أن طفلهما كان أكبر من المنهج المقدمة إليه.
يا سادة اللغة هي التأشيرة التي تعلو بها أقوام وشعوب، وتنحط بها أقوام وشعوب أخرى، فارتباطها بالثقافة وثيق وعضوي، إن الثلاثي: الهوية واللغة والثقافة يشبهون في ترابطهم مثلث يقوم عليه عماد الأمم والشعوب، إذا ضعف أحد الأضلاع أو اهتز أو سقط تهاوت الأضلاع الأخرى إلى التهاوي والسقوط.
أما تأثير ضعف اللغة على الهوية
لأن هوية أي أمة تتكون من لغتها ودينها وتاريخها، واللغة على وعاء العقيدة والتاريخ والثقافة
العربية خصوصا هي لغة الرحمن الرحيم في القرآن الكريم، ولسان الوحي مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثمّ، فهي هوية المسلم الحضارية، وهوية الإنسان هي حقيقته المطلقة، وصفاته الجوهرية.
والهوية على نوعين: هوية شخصية تميز شخصًا من خلال اسمه وصفاته وسلوكه... إلخ، وهوية وطنية تدل على مميزات مشتركة لمجموعة من الناس تميزهم عن غيرهم؛ فهي إذن القواسم المشتركة بين أفراد هذه المجتمع، وهي مثلث يتكون من: الدين واللغة والتاريخ، فلا يمكن لأمة من الأمم أن تحيا دون هوية أو تتخلى عنها؛ لأنها (أي الهوية) تحقق الذات الفردية والجماعية.
واللغة والهوية مرتبطان بالعقل، وكل منهما مركب يشتمل على أجزاء متداخلة لا يمكن فصل بعضها عن الآخر، فإذا كانت اللغة تشكل طرائق التفكير والتاريخ والمشاعر والإرادة والطموح والعلاقات الإنسانية، فإن الهوية هي كل هذه العناصر، ومن هنا فاللغة والهوية وجهان لعملة واحدة
اللغة والهوية وقوة المجتمع:
يا سادة إن الضعف اللغوي العام يترك فراغًا فكريًّا وثقافيًّا لدى الأمة، فتكون مهيأة للغزو الثقافي الأجنبي، ومجالًا خصبًا لملء الفراغ بالكلمات الدخيلة والأفكار الغربية، وبهذا الفعل تستلب الأمة فكريًّا وثقافيًّا، وهو عمل يقتل الشخصية، ويمحو الهوية، ويجعل الأمة مسخًا تابعًا للغازي، وفاقدة للإرادة والوعي.
ولعل مما يؤكد الارتباط الوثيق بين اللغة والهوية تمسك الكثير من الأمم والشعوب القوية بلغتها في جميع المحافل الخاصة والعامة، فيقول المفكر الألماني « فيخته»: إن الذين يتكلمون لغة واحدة يشكلون كيانًا واحدًا متكاملًا بروابط متينة وإن كانت غير مرئية، أي إن اللغة هي الخيط غير المرئي الذي تنتظم فيه حبات عقد أمة من الأمم؛ فتتوحَّد مشاعرها وتقوى روابطها، ورحم الله «مصطفى صادق الرافعي»؛ حين قال: «ما ذلت لغة قوم إلا ذلوا، ولا انحطت إلا كان أمرهم في ذهاب وإدبار»، فالضعف اللغوي العام يؤدي بالتدريج إلى ذوبان الشخصية، وفقد الهوية، وضعف الصلة التي توحد الأمة وتشريعاتها، وتحقق لها استقلالها، وتبوؤها المكانة اللائقة بين الأمم.
ولذلك، فإن الحفاظ على اللغة حفاظٌ على الأصالة والانتماء الوطني والقومي، والدليل على ذلك ما نشرته بعض المواقع الإلكترونية من أن المحكمة الألمانية الفيدرالية قضت بعدم أحقية طالبة في المرحلة الثانوية في النجاح؛ بسبب رسوبها في اللغة الألمانية برغم تفوقها في بقية المواد.
فاللغة هي خط الدفاع الأول عن كينونة الأمة والدرع الواقي لمعالم هوية الشعوب وحضاراتها.
اللغة والانتماء والتماسك:
تختزن اللغة بطبيعتها مكونات الانتماء، وتختزلها في الوقت نفسه، فهي أداة التعبير عن الانتماء، لأنها القاسم المشترك بين أفراد المجتمع والوعاء الذي يحتوى فيه تاريخهم ومعتقداتهم
فإذا ضعفت اللغة ضعف الانتماء والترابط بين أفراد المجتمع وتفككت عرى المجتمع
نرى كثيرا من المتحدثين الرسميين في المحافل الدولية السياسية أو الثقافية أو ما سواها، يتمسكون بفكرة الحديث بلغاتهم، وإن كانوا يتقنون اللغة الإنجليزية بوصفها اللغة العالمية الأولى
وهناك نماذج وصور أخرى للاعتزاز باللغة، فبعض الدول تمنع سفراءها ومسؤوليها من رؤساء ووزراء رسميا من الحديث بغير لغتهم الأم في المراسم والمحافل والاجتماعات الدولية التي ينضمون إليها، ففي ذلك إشارة إلى تثمينهم للغتهم وعنايتهم بها، وفيه إقرار صريح بكونها العنصر الأول للتعبير عن ذات الهوية وأصالتها.
- التصنيف: