من صفات عباد الرحمن قيامُ الليل

منذ 2024-11-05

أيها المؤمنون والمؤمنات، من سرَّه أن يكون من عباد الرحمن، الـمكرمين في أعلى درجات الجنان، فليحرص على الاتصاف بأوصافهم التي يحبها ربنا الرحمن

الحمد لله الذي مَنَّ على القائمين الليلَ بأفضل العطايا، وجعل قيام الليل زادًا للمؤمن يستعين به على تجنب الخطايا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم الجهر والخفايا، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله خير البرايا، كان يقوم الليل ويداوم عليه ويبين أنه ينهى عن الإثم والدنايا، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين بلغوا بقيام الليل مقامًا عاليًا، وعلى كل من تبِعهم بإحسان إلى نهاية الدنيا وما فيها بالفناء والـمنايا؛ {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾} [آل عمران: 102]؛ أما بعد:

 

فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، من سرَّه أن يكون من عباد الرحمن، الـمكرمين في أعلى درجات الجنان، فليحرص على الاتصاف بأوصافهم التي يحبها ربنا الرحمن؛ والتي منها: قيام الليل والناس نيام؛ قال الله تعالى عنهم: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، والمعنـى: أنهم يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين[1].

 

أيها المؤمنون، هناك حاجز بين قيام الليل وبين بعض الناس، فمن الناس من إذا سمع عبادة قيام الليل، اعتبرها عبادةً يُطالَب بها فقط الأنبياء والصالحون، والأولياء وعباد الله المقربون، لا أيها المؤمنون، قيام الليل فيه خيرات وبركات، ورحمات واستجابة للدعوات، وأنوار وأسرار وخيرات، كل واحد في هذا الجمع المبارك في أمسِّ الحاجة إليها، مهما كانت منزلته ودرجته، ومستواه وعمره، وحاله ومقامه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ » ))[2]، الله أكبر! من منا لا يريد هذا التفضل والكرم والعطاء؟ من منا ليست عنده دعوات وأمنيات يرجو من الله استجابتها وتحقيقها؟ من منا ليست عنده ذنوب يرجو من الله تعالى مغفرتها؟

 

ثم إن قيام الليل عبادة تصل القلب بالله جل وعلا، وتصفِّيه مما يتعلق به من حب الدنيا وشهواتها، وتزيد في الإيمان والمحبة والقرب من الله تعالى، والقائمون الليلَ هم أحسن الناس وجوهًا، وأشدهم إخلاصًا، وأعظمهم بركةً في أرزاقهم وأعمالهم، وأوقاتهم وأعمارهم؛ لأن القائم يسجد بين يدي الله ويدعوه، ويستغفره ويبكي عليه ويرجوه، في وقت نام فيه الناس، وخلا كل حبيب بـحبيبه، وسهر أهل الباطل على باطلهم، والعصاة على فواحشهم ومناكرهم؛ ولذلك استحق الساجدون بالليل كل خير وتشريف، وعطاء وتكريم؛ يقول ربنا الكريم: { ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾} [السجدة: 16، 17]، فالله تعالى مدحهم بقيام الليل، وترك النوم والاضطجاع على الفراش الوطيء؛ بسبب خوفهم من وبالِ عقابه، وطمعهم في جزيل ثوابه؛ ولذلك لا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد[3].

 

معاشر المؤمنين، إن قيام الليل بين يدي رب العالمين، كان يداوم عليه النبي الكريم، ومن تربَّوا على يديه من الصحابة الأكرمين، وكل من سار على نهجهم إلى يوم الدين.

 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحافظ على قيام الليل، ويطيل الركوع والسجود، والقراءة والقيام، حتى ترِمَّ أو تنتفخ قدماه، فقيل له: كيف تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: (( «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ))[4]، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة، وفي رواية: ثلاث عشرة ركعة، وكان يداوم عليها في رمضان وفي غيره، فإذا مرض أو عجز صلى جالسًا، وكان يوصي أصحابه بملازمته، والحفاظ عليه وأدائه؛ فقد قال لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (( «يا عبدالله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل» ))[5].

 

ولذلك كان حال الصحابة الكرام مع قيام الليل عجيبًا، حتى قيل: إنك إن مررت ليلًا بجانب بيوت الصحابة، تسمع لبيوتهم دويًّا كدوي النحل[6]؛ أي صوتًا كصوت النحل، هم ما بين قارئ للقرآن ومستغفر، وقائم ومسبِّح، وباكٍ وداعٍ ومكبِّر.

 

فهذا سيدنا عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل، ويقرأ القران تدبرًا وتعلمًا، وتأملًا وتفهمًا، وعندما نزل قول الله تعالى: {﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾} [الزمر: 9]؛ قال ابن عمر رضي الله عنه: "هو عثمان"؛ وذلك لكثرة صلاته بالليل وقراءته للقرآن[7].

 

ويقول أبو عثمان النهدي: "تضيفت أبا هريرة سبعة أيام - أي نزلت ضيفًا عليه - فكان هو وزوجته وخادمه يقتسمون الليل ثلاثًا؛ الزوجة ثلثًا، وخادمه ثلثًا، وأبو هريرة ثلثًا"[8].

 

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمر رضي الله عنه، فقال: (( «نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل، فكان عبدالله بن عمر رضي الله عنه بعد ذلك يقوم الليل ولا ينام إلا قليلًا» ))[9].

 

فرضي الله تعالى عن الصحابة الأكرمين، ووفقنا للاقتداء بهم أجمعين، وجعلنا ممن شمِلهم هذا الأجر العظيم: {﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾} [الذاريات: 15 - 18].

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ادعوا الله يستجب لكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله؛ أما بعد:

فيا عباد الله:

قيام الليل صفة جليلة من صفات عباد الرحمن، غير أنها صعبة وشاقة على كثير منا؛ ولذلك يتحدث العلماء عن بعض الوسائل العملية التي تساعد على قيام الليل؛ التي منها:

أولًا: تجنب المعاصي والسيئات بالنهار: فمن أحسن في نهاره، وفَّقه الله لقيام ليله، ومن أساء في نهاره عُوقب بـحرمانه؛ قال سفيان الثوري: "حُرِمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته، قيل له: ما هو؟ قال: رأيت رجلًا بكى، فقلت في نفسي: هذا مراءٍ"[10]؛ يعني: أنه يبكي ليراه الناس، فعُوقب بالحرمان من قيام الليل خمسة أشهر، ونحن نقول لأنفسنا بأن أعظم سبب يمنعنا من القيام ذنوبنا ومعاصينا التي بلغت عَنان السماء.

 

ثانيًا: مجاهدة النفس: نفس الإنسان تحب الراحة والنوم في الفراش الوثير، وتحب الدنيا والشهوات، وتسمح بالملايين في سبيل الباطل واللعب واللهو، ولا تسمح بدرهم واحد في سبيل الله للفقير المحتاج، فكان كل واحد منا في حاجة إلى أن يجاهد نفسه، ويلزمها طاعة الله تعالى، فيقوم ليصلي بالليل رغم ما يجد من المشقة والثقل على النفس، ويستمر في المحافظة على أدائه، يومًا بعد يوم، شهرًا بعد شهر، حتى يصل إلى بركاته وأنواره في يوم من الأيام، حينها سيستمتع بلذة وراحة القيام؛ قال عتبة الغلام: "كابدت الليل عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة"[11].

 

ثالثًا: أكل الحلال: إن العبد الذي يحرص على أكل الحلال، يكون موفقًا دائمًا في عباداته، وقرباته وطاعاته، وفي كل شؤون وأمور حياته؛ وقد ورد في الأثر: "من أكل الحلال أطاع الله شاء أو أبى"[12]؛ هذه ثلاثة أسباب.

 

ثم اعلموا - رحمكم الله - أن قيام الليل يتحقق ولو بصلاة ركعتين أو أكثر، في أي وقت من الليل، من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأمر سهل ويسير، ولا يشترط فيه طول القيام، ومن أراد أن يطيل فليُطِلْ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين، ومن قام بألف آية كُتب من المقنطرين))[13]؛ أي: ممن كُتب له قنطار من الأجر[14]، فاللهم وفقنا لقيام الليل، واكتب لنا الأجر يا رب العالمين.

 

هذا، وأكْثِروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين؛ فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: { ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

 

وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين، خصوصًا الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأدِمْ على بلدنا الأمن والأمان وعلى سائر بلاد المسلمين.

 

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم أنزل السكينة في قلوبنا، وزدنا إيمانًا مع إيماننا، واهدنا وأصلح بالنا وأدخلنا الجنة يا رب العالمين، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا ولأشياخنا، ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات؛ {﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾} [البقرة: 201]، {﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾} [الصافات: 180 - 182].

 


[1] تفسير السعدي.

[2] الموطأ.

[3] ينظر: تفسير القرطبي.

[4] صحيح البخاري.

[5] صحيح البخاري.

[6] ينظر: الزهد لابن المبارك.

[7] تفسير ابن كثير.

[8] ينظر لفظه في صحيح البخاري.

[9] صحيح البخاري.

[10] قوت القلوب، للحارثي.

[11] قوت القلوب، للحارثي.

[12] الأمور الميسرة لقيام الليل، وحيد بن عبدالسلام بالي.

[13] سنن أبي داود.

[14] الترغيب والترهيب للمنذري.

___________________________________________
الكاتب: محمد أحمد زراك

 

  • 4
  • 0
  • 443
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    مِن أقوال علماء الملّة • قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة، فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته" إغاثة اللهفان - صحيفة النبأ العدد 456

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً