حرارة الصيف والوقاية الإيمانية
فحريٌّ بالمؤمن أن يتذكر قدرةَ الله جلَّ وعلا وحكمتَه في تقلُّب الأحوال، ويتذكَّر الوقوف تحت لهيب الشمس يوم يقوم الناس لرب العالمين...
معاشر المؤمنين، اشتدت حرارة الأجواء هذه الأيام، وشعر الناس بحرارة القيظ ولهيب الشمس، وسبحان مقلِّب الليل والنهار، ومسيِّر الشموس والأقمار، ومبدِّل الفصول والأقدار، {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حقيقة تلك الحرارة التي تشتد في الصيف، فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فحريٌّ بالمؤمن أن يتذكر قدرةَ الله جلَّ وعلا وحكمتَه في تقلُّب الأحوال، ويتذكَّر الوقوف تحت لهيب الشمس يوم يقوم الناس لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم تُدنى الشمس على رؤوس الخلائق قدر ميل، فعن المقْدَاد بْن الأَسْوَدِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِى الْعَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ؛ (أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي).
عندها يبحث المرء -عباد الله- عن ظلٍّ يقيه حرَّ ذلك اللهيب ولو اشتراه بملء الأرض ذهبًا، فذاك الذي ينبغي أن يُتقى ويُعمل لأجل الوقاية منه، أما حرُّنا هذا، فلله الحمد والمنة وسائل التبريد والتكييف متوفرة ومتيسرة، أما في ذلك اليوم فلا يَستظل إلا من أظلَّه الله تبارك وتعالى في ظله، فهل تريد أن تكون في هذا الظل يا عبدالله لتأمن من ذلك العذاب؟ فاستمع بارك الله فيك لتلك الأعمال والأحوال التي هي طوق النجاة وسبب الوقاية وسبل الأمن من ذلك الكرب.
أولها إنظار المعسر والتخفيف عنه، فمن أنظر معسرًا أو وضع عنه فليبشر بمقامٍ في ظل اختصه الرحمن لعباده:
فعن أبي اليسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( «من أنظر معسرًا أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» ))؛ (حديث صحيح أخرجه أحمد. وقال الألباني حديث صحيح).
وإنظار معسر أمهاله في قضاء الدين وعدم التشديد عليه والتجاوز عن الدين أو بعضه، والجزاء من جنس العمل فكما يسَّرت على المعسر يسَّر الله لك عسرك يوم القيامة.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: م «ن سرَّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفِّس عن معسر أو يضع عنه»؛ (أخرجه مسلم).
ومن المنجيات من لهيب شمس يوم المحشر خصالٌ سبعٌ يجمعها باعث الخوف من الله جل وعلا، فإن استطعت أن تتمثل إحداها أو بعضًا منها فافعل يا عبدالله فهن المنجيات، فعن أبي هريرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما -عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌّ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق بالمساجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفَرَّقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصَدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تنفق يمينه»؛ (متفق عليه).
وإذا أردت نداءً خاصًّا وكرامة وحفاوة من الرحمن جلّ في علاه لك، يا عبدالله، تُنادى بها لتكرم وفادتُك في خير مكان وأشرف مقام تحت ظل الرحمن، فكن من المتحابِّين في الله الذين يتحابُّون لأجل مرضاة الله، ويلتقون على طاعة الله، ويسعون لنصرة دين الله وإقامة شعائره، لا تتأثر مشاعرُهم وعواطفُهم بما يجرف الناس من أحقاد وأهواء، وعداوات وبغضاء، لاعتبارات مادية أو شخصية أو عرقية.
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي».
سئل أبو حمزة النيسابوري عن المتحابِّين في الله عز وجل: من هم؟ فقال: العاملون بطاعة الله، المتعاونون على أمر الله، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، فالحب في الله رابطة من أعظم الروابط، وآصرة من آكد الأواصر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أوثق عُرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل»؛ (رواه الطبراني وصححه الألباني).
فما أحوجنا اليوم عباد الله في زمان طغت فيه الماديات، وتنامت فيه العصبيات، وغلبت فيه المصالح والأهواء والأطماع إلى أن نجدد في نفوسنا تلك المعاني السامية والقيم الرفيعة.
وللمتصدِّقين حَظوةٌ ومكانة عند الله جل وعلا، فالمتصدِّق له ظلٌّ خاصٌّ يظلُّه يوم القيامة، جزاء تصدُّقه وتفريجه الكربة عن غيره، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ»؛ (الألباني صحيح الجامع). وعلى قدر الصدقة والحاجة إليها وإخلاص المُتصدِّق لله تعالى بها يكون القبول لها وسعة ظلها.
معاشر المؤمنين، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «المُسلمُ أخو المُسلمِ لا يَظلمهُ ولا يُسلمهُ، مَن كانَ في حاجَة أخيه كانَ اللّهُ في حاجَته، ومَن فَرَّجَ عن مُسلم كُربَة فَرَّجَ اللّهُ عنهُ بها كُربَة من كُرَب يوم القيامَة، ومَن سَتَرَ مُسلمًا سَتَرهُ اللّهُ يومَ القيامة».
وعن عبدالله بن سهل بن حنيف، عن أبيه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غارمًا في عسرته، أو مكاتبًا في رقبته، أظلَّه الله يوم لا ظل ألا ظله»؛ (حديث صحيح، أخرجه أحمد والطبراني).
وما أحوج شعب فلسطين وأهل غزة اليوم لتفريج كرباتهم ونصرتهم وإعانتهم وعدم خذلانهم أمام الاعتداءات الصهيونية والمؤمرات الخفية، وهم في الحقيقة يدافعون عن الأمَّة بأسرها أمام مخطط الصهاينة بالسيطرة على المقدسات وتركيع الأمة لأطماعها.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة.
- التصنيف: