الكريم سبحانه يعطيك من غير سؤال
من أسماء ربنا تعالى "الكريم" و"الأكرم"، وهذا الاسم الحسن يبعث في نفس المسلم شعورًا لطيفًا يسري في حنايا روحه وذرات جسده،
من أسماء ربنا تعالى "الكريم" و"الأكرم"، وهذا الاسم الحسن يبعث في نفس المسلم شعورًا لطيفًا يسري في حنايا روحه وذرات جسده، ويزرع في قلبه بهجةً غامرة، وأنسًا عجيبًا، ألَا تشعر بكثير من البهجة حين تسمع عن كرم فلان من الناس، وكثرة عطائه، وإحسانه للفقراء والمحتاجين؟ فكيف سيكون يا تُرى إحسان وكرم الكريم الأكرم سبحانه، الذي عمَّ فضله وإحسانه كل زوايا هذا الكون، وهطلت سحائب جُودِهِ وكرمه على كل موجود في الأرض والسماء، وجادت مزون نَواله العباد والبلاد؟!
معنى الكريم في اللغة: اسم جامع لكل ما يُحمَد، وهو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، وأما معناه الشرعي: فالكريم هو الذي يبدأ بالنعمة قبل الاستحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير ما استثابة، ويغفر الذنب، ويعفو عن المسيء، وهو الذي إذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يُبالي كم أعطى ولمن أعطى، ولا يُضيِّع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشُّفَعاء، وهو البهيُّ، الكثير الخيرُ، العظيم النفعُ، وهو من كل شيء أحسنه وأنفعه، والأكرم: صيغة تفضيل تدل على الحصر، فهو الأكرم وحده، المتصف بغاية الكرم الذي لا شيء فوقه، ولا نقص فيه؛ فالخير كله بيده، والخير كله منه، والنعم كلها هو موليُّها سبحانه.
جزل المكارم والعطايا:
تأمَّل في قوله سبحانه عن نفسه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8]؛ يعني: يا أيها الإنسان العاصي لربه، أيُّ شيء غرك بالله حين كذَّبته وعصيته؟! قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] إشارة إلى الجواب؛ وهو أن الذي غرَّ الإنسان كرم الله عز وجل وإمهاله وحِلمُه، لكنه لا يجوز أن يغترَّ الإنسان بذلك؛ فإن الله يُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، إذًا ما غرك بربك الكريم؟ الجواب: كرمه وحلمه، هذا هو الذي غرَّ الإنسان، وصار يتمادى في المعصية في التكذيب، يتمادى في المخالفة، ومن كرمه سبحانه أنه يصف نفسه بالكريم حتى في مقام التوبيخ والتقريع.
ثم عدَّد سبحانه في الآية بعض صور كرمه فقال: {الَّذِي خَلَقَكَ} [الانفطار: 7] أوجدك من العدم على غير مثال سابق، خلقك من نطفة ولم تكُ شيئًا، {فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7]؛ أي جعلك مستويَ الخِلْقَةِ ليست يدٌ أطولَ من يدٍ، ولا رجل أطول من رجل، ولا أُصْبُع أطول من أصبع، بحسب اليدين والرجلين، فتجد الطويل في يد هو الطويل في اليد الأخرى، والقصير هو القصير، وهلمَّ جرًّا، سوَّى الله عز وجل الإنسان من كل ناحية؛ من ناحية الخِلقة: {فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7]، وفي قراءة سبعية {فَعَدَّلَكَ}؛ أي: جعلك معتدل القامة، مستويَ الخلقة، لستَ كالبهائم التي لم تكن معدلة، بل تسير على يديها ورجليها، أما الإنسان فإنه خصَّه الله بهذه الخصيصة، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8]؛ يعني: الله ركَّبك في أي صورة شاء؛ من الناس من هو جميل، ومنهم من هو قبيح، ومنهم المتوسط، ومنهم الأبيض، ومنهم الأحمر، ومنهم الأسود، ومنهم ما بين ذلك، أي صورة يركبك الله عز وجل على حسب مشيئته، ولكنه عز وجل شاء للإنسان أن تكون صورته أحسن الصور، ولو ذهبنا نُعدد الأمثلة تِلْوَ الأمثلة في حُسْنِ صُنْعِ الله وخلقه، وتقديره لأمور الكون والحياة والإنسان على أتم تقدير وأحسنه، لانتهت الأيام دون بلوغ مرادنا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ناديتَ باسمك يا إلهي ضارعًا ** إن لم تُجِبْني فمن يجيب بكائي
أنت الكريم فلا تَدَعْني تائهًــا ** فلقد عييتُ من البعاد النائــــــي
ولقد رجوتك يا إلهي ضارعًـا ** مُتذللًا فلا تردَّ رجائـــــــــــــــــي
يُعطيك ثم يثني عليك:
وقال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، فربُّنا سبحانه غنيٌّ كريم، غنيٌّ عن عبادة خلقِهِ له، غني عن شكرهم، وليس مفتقرًا إليه، كريم ذو أفضال ونِعَمٍ لا تنتهي؛ يُكْرِم المسلم والكافر، ويكرم الشاكر للنعمة والكافر بها، فلا يسلبها منه، أو يبقيها له على كفره، ومن صور كرمه سبحانه أنه كثيرُ الغفران والتجاوز لعباده، ليس هذا فحسب، بل يبدل بعض سيئات عباده إلى حسنات؛ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لَأعلمُ آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وآخر أهل النار خروجًا منها؛ رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة، فيُقال: اعرِضوا عليه صِغارَ ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتُعرض عليه صغار ذنوبه، فيُقال: عمِلت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تُعرَض عليه، فيُقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنةً، فيقول: رب، قد عملِتُ أشياءَ لا أراها ها هنا»، قال أبو ذرٍّ راوي الحديث: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحِك حتى بدت نواجذه))؛ (أخرجه مسلم).
ومن صور كرمه أنه يعطي عبده ثم يثني عليه؛ سمع الجنيد رجلًا يقرأ قول الله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] ثناء من الله على نبي الله أيوب عليه السلام، فقال: "سبحان الله! أعطى وأثنى"؛ أي: وهب له الصبر وأعطاه، ثم يمدحه ويُثني عليه.
كم أعطاك من غير سؤال!
ومن صور كرمه أنه يعطي دون سؤال، تذكَّر كم من النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها علينا قبل أن نسأله! تذكر كم من أيام وسنوات العافية منحنا إياها دون أن نسأله!
ومن كرم الكريم سبحانه أنه يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صفرًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حَيِيٌّ كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديَه، أن يردَّهما صفرًا خائبتَينِ»؛ (حديث صحيح، رواه الترمذي).
لك أن تتصور كرم الله تبارك وتعالى من قوله عليه الصلاة والسلام: «يد الله ملأى لا يَغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يده»؛ (متفق عليه)؛ (لا يغيضها)؛ أي: لا ينقصها، تصور هذا العطاء والسخاء والكرم الإلهيَّ الذي لا ينتهي ولا ينقص، سحَّاء الليل والنهار؛ أي: دائمة الصبِّ.
الكريم سبحانه لا يُضيِّع من لاذ به والتجأ إليه، وهو يحب أن تُعلِّق عليه كل آمالك وتطلعاتك، وتفوِّض إليه كل أمورك، وتتوكل عليه في كل شؤونك وحوائجك، وتسأله كل شيء، وهو يحب الْمُلِحِّين في الدعاء، الْمُكْثِرين من المطالب، بخلاف بني البشر، ولا تنسَ أنك تسأل أكرم الأكرمين:
لا تسألن بُنيَّ آدمَ حاجةً ** وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَــــــــــبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله ** وبُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ
- التصنيف: