ثورة القلوب والنفوس

منذ 2012-01-22

بسم الله أبدأ المسير، وعلى خطى البشير النذير والسراج المنير أترك عنان البيان حُرّاً بين دروب الفكر يَتَلَمَّحُ وَسَمَاتِ الهُدَى ويسوقُهَا دُرّاً إلى الأفهام سَوْقَ الشَّذَى والعَبِيرِ.

كلماتٌ من القلب الهائم في حب الأوطان، وحب الأوطان إيمان، ما زلنا بها نترنم ويشدو بها الوجدان، في كل آن ومكان، حتى تشرق أرضنا بنور ربها وتلقي عصا الوهن والضعف من بين يديها، وتشمخ على ما عداها بمحاسن معانيها وجميل عبرها.

أما بعد:
فلله الحمد رب الكون ومالك أمره على قدره المقدور، الذي سَطَّرَ ملحمةً أسعدنا بها زماننا بعد طول حرمانٍ من تذوق طعم العزة والكرامة، حيث عادت مصر كلها لأبنائها واستنقذها الله تعالى بسببٍ من عنده من براثن السُّرَّاقِ والبُغَاةِ والمُتكبِّرين، والمفسدين والمنافقين والمتسلقين، له الحمد حمدًا لا يفي بجميل فضله الأسنى في مدى الأيام.

لقد اشتعلت ثورة الشعب المباركة منذ أزمان، وهي تغلي في نفوس الشرفاء كغلي الحميم والمراجل في القلوب، وبلغت ذروتها بأمر الله تعالى خواتيم يناير الماضي، لتعلن أن الملك لله وأن عروش الظالمين مهما طالت أعمارها لا بد وأن تذروها رياح الغضب، وأن الشعب صانع مجده حينما يأوي إلى الإيجابية محاولاً ليَّ أعناق العوج وهدم الخطأ، بينما يكون الشعب ذاته حافر قبره بيده أيضاً وقتما تطغى عليه السلبية، والعطالة الإيمانية والفكرية والأخلاقية.

في زمان الثورة كنت ترى كل شيء على الأرض يثور، وكان التاريخ جاثيًا ليصور الملاحم والبطولات التي يشتاقها سمع أصحاب الفطرة السوية، صعدت أنفاس الواجلين بالدعاء لرب السماء، بينما كان غِرَّةُ شبابنا يقاسون الجوع والبرد ويلتحفون العراء، وفي الميدان حدث ولا حرج عن صياغة الإحسان في أعلى ذراه، وعن الإيثار في أكمل معناه، وعن التسامح الذي لم يسجل له التاريخ هذه الصور إلا في سوانح الأزمان.

إنها الثورة التي نطقت على الأرض وكأنما نطق معها وبها الحجر والشجر والمطر قبل ألسنة البشر، كنا نتابعها بدعاءٍ ملهوف وقلب شغوف، وفكرٍ عن كل شيء من الدنيا مصروف، إلا حدو القلوب بكل المنى أن ينعم الله علينا بالأمان، وكان.

وإذا بالدنيا تتغير معالمها بالظالم والمظلوم، حيث حل الظالمون لأوطانهم ولأنفسهم غرف الظلام والإهانة، التي أذاقوا فيها ويلات الزمن لمن ساسوهم، بينما سطع في الأفق بوارق الأمل ليتحول المستضعفون إلى أوزاعٍ ورؤوسٍ للناس على قافية الهداية إلى الحياة الكريمة، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص 5: 6].

نطق الزمان بسنن الله التي لا تحابي ولا تجامل، فمن مَلَكه الله على الناس وركب مركب الظلم أزال الله ملكه ودمر عرشه، وفرق شمله وفضحه بين خلقه، قال النبي الكريم: «إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (صحيح البخاري: 4686 بسندٍ صحيحٍ عن أبي موسى الأشعري).

وأما بقية الدرس الذي لا يتسنى لنا أن نجامل فيه أيضًا: هو أن الشعب يأمل بقية المجد والسؤدد ويتشوق ليومٍ كريمٍ يبدأ معه مرحلة النعيم المشوق، الذي ستتحول معه الدنيا إلى فراديس خير وبر ونماء، دون أن نتكلف ثورةً في القلوب حتى نستحق هذا التغيير، إن الأرض تغيرت لما هزها زئير المتظاهرين، وعلى متنها حدثت أشباه المعجزات من أمنياتٍ كنا على طرف الإفلاس العقلي من مجرد تخيلها..

لكنها صارت واقعًا رائع المحيا، ومن أجمل ما اكتست به الحياة من حللٍ هو ثوب الحرية من أغلالِ اكتناهِ السرائرِ والنبش في الضمائر، كل هذا وغيره كثيرٌ صار واقعًا من روعته لا تصدقه العيون، ألا وإن بطولة الوقت وواجب الزمن أن نتسابق في التغيير من الداخل بإخلاصٍ وتجردٍ، بل إن الواجب حقًا هو أن نقوم بمظاهرةٍ واستنكارٍ للسخائم، التي تنام تحت جنوبنا بالليل وتشبعنا لغوبًا بالنهار..

مظاهرةٍ جمعيةٍ مترابطة كما كان المترابطون في الميدان، يزعقون بملء الحناجر في قوة صوت وحسن تعبير، نرجو أن نكمل بالثورة إلى القلوب المسير، لا يمكن أن تؤتي الثورة أكلها حتى نتغير، إن الثمرة المرجوة منها موقوفةٌ على ضمائرنا ونفوسنا وطهارة دواخلنا، لا يمكن أن نتفيأ ظلال العيش السعيد أبدَا إلا إذا قمنا بثورةٍ عاصفةٍ على ما فينا من تظالم سيردينا المهالك كأفرادٍ وشعب.

إن الدساتير مع أهميتها في صياغة الحق والواجب ليست كل شيء في عالم الإصلاح، وإن تعاقب الحكومات وقوة الآخذين به لن يفيد إلا في عالم الأشكال ورموزها، بينما يبقى عالم النفوس والأرواح خاوي الوفاض من نعيم اليقين إذا فاته اقتلاع أشواك النفوس، وبث فسائل الخير والطهر والأدب وزينة القلوب، وعطرها من كل خلقٍ حسن.

وقد وضع الله تعالى لنا الشرط وقبلناه، إذ نتلوه ونسمعه ونؤمن به، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]. فمتى نتغير ونغير ما بأنفسنا؟ ومتى يقوم كل ثائرٍ بهذا الجهد الشاق؟

ومفاد الكلام جمعًا باختصارٍ: هو أننا في أمس الحاجة إلى ثورةٍ جديدةٍ متجددة كل يوم على الباطل الشخصي، الذي يتمتع بالمقام في قلوبنا ونفوسنا، وبيوتنا وأسرنا وشوارعنا وقرانا ومدننا، فنحن الذين نأمر الأيام بتسطير تاريخنا.

ولوطني كل التقدير.. عنوان الوفاء.


الكـاتب: حسين بن شعبان وهدان
المختار الإسلامي

  • 0
  • 0
  • 1,956

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً