{ويل لكل همزة لمزة}
من أهم الأمور التي جاء بها دين الإسلام، وأمَرَ بها، وحذَّر من مخالفتها إيذاءُ المسلم في نفسه، وفي مشاعره الداخلية.
من أهم الأمور التي جاء بها دين الإسلام، وأمَرَ بها، وحذَّر من مخالفتها إيذاءُ المسلم في نفسه، وفي مشاعره الداخلية.
فكما جاء الإسلام بحفظ نفس المسلم، وحفظ ماله، وعقله، وعِرْضِه، وقبل ذلك حفظ دينه، وهو ما يسمى في الشريعة بحفظ الضروريات الخمس.
جاء أيضًا بحفظ روحه ألَّا تُكْسَرَ، وبحفظ نفسيته ألَّا تُحطَّم، حتى يبقى المسلم في صفاء وتوافق مع تعاليم دينه، ومع مجتمعه الذي يعيش فيه، وهو ما وصلت إليه اليومَ الحضارةُ الحديثة والثقافة الجديدة بما أَسْمَتْهُ منعَ التنمُّر، وجعلت على ذلك عقوباتٍ على من فَعَلَها، وتعويضات لمن تعرض لها، أما الإسلام دين العدل والمساواة، فقد سبق إلى ذلك منذ زمن بعيد، وجاءت نصوص الشريعة تحفظ للإنسان كرامته أن تُهان، وشعوره أن يُصان، وحقوقه أن يُستطال عليها، فأسمى الله سبحانه وتعالى سورة كاملة في القرآن يعرفها الصغير والكبير لأجل هذا الأمر، ليعرف المسلم خطورة هذا الأمر؛ فقال الله سبحانه وتعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، سورة الهمزة التي تحذِّر في آيتها الأولى من الهمز واللمز، واستنقاص الناس، والاستهزاء بهم.
وأن كل هَمْزَةٍ مهما صغُرت في عين صاحبها، فإن مصيرها إلى النار، فالويل وادٍ في جهنم، نعوذ بالله من جهنم ووديانها، ونعوذ بالله من الطرق التي تؤدي إليها، همزة واحدة تؤدي إلى الويل، ولمزة واحدة تؤدي إلى الويل، فكيف بمن كانت حياته تدور في هذا الفلك، وتصبح وتمسي على همز الناس ولمزهم؟
جاء في صحيح البخاري عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: رأيت عليه بردًا، وعلى غلامه بردًا، فقلت لأبي ذر: لو أخذت هذا، فلبِستَه كانت حلةً، وأعطيته ثوبًا آخر، فقال أبو ذر: ((كان بيني وبين رجل كلامٌ، وكانت أمُّه أعجميةً، فنِلْتُ منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «أسابَبْتَ فلانًا» ؟ قلت: نعم، قال: «أفنِلْتَ من أمه» ؟ قلت: نعم، قال: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، قلت على حين ساعتي: هذه من كِبَرِ السن؟ قال: «نعم، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فَلْيُطعمه مما يأكل، ولْيُلْبسه مما يلبس، ولا يُكلِّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلَّفه ما يغلبه، فَلْيُعِنْهُ عليه».
«إنك امرؤ فيك جاهلية»؛ أي: إن هذا الفعل من أفعال الجاهلية، وأبو ذرٍّ وكل مؤمن يفِرُّ من أفعال الجاهلية، أو يتلبس بها في حياته.
ما ذنب المرء أن يُولَد ولونه مختلف عن الألوان التي حوله؟ هل يملك المرء أصلًا أن يختار اللون الذي يُولَد به ويعيش فيه؟ هل يملك أصلًا أن يختار أبويه اللذين سيعيش معهما وينتسب إليهما؟ وكذلك بقية أمور حياته، لونه البيِّن أو شكله الظاهر، طوله الفارع أو قصره الواضح، أن يكون حسنًا أو أقل من ذلك، لا يختار المرء شيئًا من ذلك، لا أهله، ولا لغته، ولا عشيرته، ولا البلد الذي وُلِدَ فيه، فلماذا يُعيَّر بشيء لا قدرة لأحد عليه؟ ولخطورة هذا الأمر؛ جاء قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، تحذير عام لجميع المؤمنين رجالًا ونساءً من هذا الفعل الشنيع؛ السخرية والتنابز بالألقاب والأسماء، وكشف مستور الناس وخباياهم، وفضحهم بين عباد الله.
قد يدخل المرء في حالة اكتئاب بسبب كلمة سمعها، وما استطاع أن يردها خوفًا، أو خجلًا، أو عجزًا.
وبسبب السخرية من الآخرين ولمزهم وهمزهم يتحول المجتمع من مجتمع متآخٍ متآلف، يشعر المسلم فيه بأُخُوَّة مَن حوله مِنَ المؤمنين؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، يتحول هذا المجتمع إلى مجتمع مريض متسلِّط، يبحث عن العيوب والثغرات في حياة الناس، والتقليل من شأنهم، فمن كان هذا دَيدَنُه، ومن كانت هذه طريقته في الحياة، فإنه يستحق الويل الذي ينتظره في الآخرة.
إن مما فسَّر به العلماء قولَ النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري ومسلم: «أربع من كُنَّ فيه، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يَدَعَها: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فَجَرَ، وإذا عاهد غدر»، ومن الفجور في الخصومة أن يذكر عيوب الطرف الآخر، أو عيوب أهله، أو يُعيِّره بشيء من اسمه، أو عشيرته، أو غير ذلك.
فهذه نتيجة أخرى لمثل هذا الفعل؛ لَمْزِ الآخرين والسخرية منهم، تؤدي بالمرء أن يتصف بصفات المنافقين.
وأيضًا كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
هذا طريق يبدأ أوله بسخرية ومزح ولمز، وينتهي آخره بنفاق، أو على أحسن الأحوال بكبيرة من الكبائر.
فإن من أسباب الوقوع في همز الناس تعظيمَ المرء لنفسه وقومه ومن حوله، فهو يرى نفسه خير الناس، ويرى قومه أفضل الناس، ويرى قبيلته أشجع القبائل، وأعزَّ من يمشي على الأرض، فيدفعه مثل هذا الشعور إلى الاعتزاز المبالَغ فيه بنفسه وقومه، واحتقار الآخرين، واستنقاص وتجاهل ما لهم من ماضٍ حسن، وأفعال طيبة، فيبقى دائمًا في دائرة الظن أنه الأفضل والأحسن، والأكرم على عباد الله.
أيها المسلمون: يجهل هذا الذي يلمز الناس، وينتقص منهم، أن أسلوبه هذا هو أسلوب الكافرين قبله؛ فهو يَسِيرُ على نفس الطريق، ويتشبَّه بالكافرين لا بالمؤمنين؛ أَلَمْ يصِفِ الله سبحانه هؤلاء بقوله: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11]، فهذه الصفة الذميمة تجمع إليها صفات مذمومة، كانت الهمز ثم انضمت إليها النميمة، وتتلوها الغلظة ومنع الخير، والاعتداء على الآخرين؛ {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 12].
أيها المسلمون الحريصون على دينهم، وإيمانهم، وأعمالهم الصالحة، أَلَمْ تقرؤوا قول الله تعالى في آخر سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29، 30].
انظروا كيف سجَّل القرآن على المشركين هذه الحركة الخفية، التي لا ترصدها العيون، ولا تنتبه لها العقول، كيف أن الكافرين كانوا يُؤذون المؤمنين بأدنى فعل يفعله الإنسان؛ وهو الغمز بالعيون، لا يَدَعَون فعلًا أو قولًا فيه أذًى للمؤمنين، إلا وفعلوه.
فلماذا يتشبَّه المسلمُ بصفات الكافرين، ويؤذي أخاه المسلم بمثل ما كان الكافرون يؤذون المؤمنين؟
أخيرًا أيها المسلمون: جاء في سنن أبي داود والترمذي، وصححه الألباني، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - قال بعض الرواة: تعني قصيرة، وكانت صفية بنت حيي بن أخطب قصيرة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلتِ كلمة لو مُزِجَت بماء البحر لَمَزَجَتْهُ)).
فانظروا أي أثر تتركه مثلُ هذه الكلمات العابرة على ألسنتنا ولا نعيرها اهتمامًا؟ كيف يكون شأنها عند الله تعالى؟ {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، فمن ابتُلِيَ بشيء من ذلك، فَلْيُبادر إلى التوبة، وليجتهد في أن يتخلص من هذه العادة؛ فإن عاقبتها وخيمة، وهي مما يأكل الحسنات، ويذهب بالأعمال الصالحات.
- التصنيف: