تجديد الإيمان بإصلاح القلوب

منذ 2024-08-15

قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم».

الحمد والثناء...

أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ مدار التقوى على إصلاح القلب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهيَ القَلْبُ».

 

عباد الله، أخرج الطبراني في المعجم الكبير من حديثِ عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم»؛ (صحَّحه الألباني في صحيح الجامع: 1590).

 

هذا الدعاء فيه من عظيم المقصد، وأجلّ مطلب، في إصلاح أهم مضغة في الجسد، التي هي محلُّ نظر الرب تبارك وتعالى، التي إن صلحت صلح سائر الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فلهذا اهتمَّ الشارع الحكيم بسؤال اللَّه تبارك وتعالى في إصلاح هذه المضغة.

 

قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ».

 

أي: مِثْل الثَّوْبِ الجَديدِ الذي يَبْلى بطُولِ استخدامِهِ، فكذلكم الإيمانُ، فإنَّه يَبْلَى ويَضْعُفُ ويتلفُ ويتغيَّرُ في قَلْبِ المُسْلِمِ، ويدخُلُه النَّقْصُ مما يلقاهُ في هذه الحياة مِنْ مُلهياتٍ وصوارفَ متنوعةٍ تَصرِفُه عنِ الإيمان، وفتنٍ عِظام تُذهبُ قوَّتَه وتُضعِفُ جمالَه وحُسْنَه وبَهاءَه، فإنَّ الإيمانَ زينةٌ للقلوب؛ كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].

 

وإنَّ علامةَ ضَعفه - يا عباد الله - كثرةُ المعاصي والآثام، وانغماسُ النفس في الشهواتِ، وقلَّةُ الصالحات والطاعات، والبُعْدُ عنْ ذِكْر ربِّ الأرض والسماوات، وعدمُ تجديدِ التوبة بَعْدَ الذنوب والسيئات.

 

أخرج الترمذيُّ وغيره من حديثِ أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب ونزع واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتَّى يُغلَّفَ بها قلبُه، فذلك الرَّانُ الَّذي ذكر اللهُ في كتابِه»: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14].

 

قال ابن كثيرٍ رحمه الله: وإنَّما حَجَبَ قلوبَهُم عنِ الإيمان بِهِ ما عليها مِنَ الرين الذي قد لَبس قلوبَهم مِنْ كثرةِ الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]؛ ا هـ.

 

وقال الحسنُ البصري: هو الذَّنبُ على الذَّنبِ حتى يَعمى القلب فيمُوت؛ ا هـ.

 

كلُّ ذلك - معاشر المؤمنين -ممَّا يُضعِفُ الإيمانَ في القلب، وإذا وقعَ ذلك، فإنَّ المرءَ يُصيبُه ما يُصيبُه مِنَ الغمِّ والهَمِّ والملَلِ والكآبة حتى وَلَوْ مَلَكَ الدنيا وما فيها، وأعظمُ مِنْ ذلك، الشعور بقسوةِ القلبِ وخشونَتِه، كما قال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وقال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].

 

قال البغويُّ: وإنَّمَا لم يُشبِّهْها بالحديد مع أنَّهُ أصلَبُ مِنَ الحجارة؛ لأنَّ الحديدَ قابلٌ لِلِّين؛ فإنه يلينُ بالنار، وقد لانَ لداود عليه السلام، والحجارةُ لا تلينُ قط، ثم فضَّلَ الحجارة على القلبِ القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] وقلوبكم لا تلين ولا تخشع.

 

وقال جل وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

 

• ومما يُصيبُ المسلمَ أيضًا عندَ ضعفِ إيمانه: عدمُ إتقانِ العبادات: ومنْ ذلك شرودُ الذِّهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها.

 

• ومنها: التكاسُلُ عنِ الطاعاتِ والعبادات، قال الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142].

 

• ومنها: الشُّحُّ والبُخْل، فقد بيَّنَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «إيَّاكم والشحَّ؛ فإنَّ الشحَّ أهلك مَنْ كان قبلَكم، أمرَهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرَهم بالبُخْلِ فبخِلوا، وأمرَهم بالفُجورِ ففجَروا»؛ (رواه النسائي وهو في صحيح الجامع 2678).

 

• ومنها: التعلُّق بالدنيا، والشَّغفُ بها، والوهن الذي ذمَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال لمَّا سُئلَ عنه: «حُبُّ الدُّنيا، وكراهيةُ المَوتِ»؛ ولذا أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة تجديدِ الإيمانِ في القلوب بالتوجُّه الصَّادِقِ إلى الله جلَّ وعلا، فأوَّلُ وسائل تجديدِ الإيمان، هو الدعاء - يا عباد الله - لا تستهينوا بالدعاء؛ فإنَّ الإلحاحَ والتضرُّعَ إلى الله تعالى عبادَةُ الأبرارِ، الموقنينَ بوعدِ الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وهو ما أرشدَ إليه النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث قائلًا: «فاسألوا اللهَ أنْ يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبكم».

 

والله جلَّ جلالهُ يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].

 

• ومنها: النظرُ في آيات القرآن الكريم، والتفكُّر في وعدِ الله عز وجل ووَعيدِه، وأمرِهِ ونهيِهِ، بعينٍ دامعة، وقلبٍ خاشع، ونفسٍ وجلة، قال جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

 

• ومنها: كَثرةُ الذِّكرِ والاستغفارِ والمداومة على التوبةِ عندَ كلِّ ذنبٍ، فإنَّ للقلب قسوةً لا يذيبُها إلَّا ذكر الله تعالى، وقد شكا رجلٌ للحسن قسوةَ قلبه، فقال له: أَذِبْه بالذكر، وقال ابن القيم في مدارج السالكين (4/17): ففي القلبِ شعَثٌ لا يلمُّه إلَّا الإقبال على الله، وفيه وحشةٌ لا يُزيلها إلَّا الأُنْس به في خَلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهِبه إلَّا السُّرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقٌ لا يسكِّنه إلَّا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسراتٍ لا يطفئها إلَّا الرِّضا بأمره ونهيه وقضائه؛ ا هـ.

 

• ومنْ أعظمِ وسائلِ تجديدِ الإيمانِ - معاشر المسلمين - استماع الموعظةِ، وتقبُّلُها هوَ بدايةُ العلاج، والنقطةُ البيضاءُ التي ستنطبِعُ على القلبِ الغافِلِ الناسي.

 

• ومنها عباد الله - وقد أهملها غالب الناس -لُزوم مَجالِسِ الذِّكرِ والعِلمِ والتفَقُّه في الدين، قال جلَّ وعلا: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 54].

 

وكيفَ لا يزدادُ الإيمانُ بطلبِ العلم ومجالسِ العلم؟ هي مجالسُ ذكرٍ تُتْلى فيها آياتُ الله، ويُتَعَلَّمُ فيها كيفَ يُعَظَّمُ الرَّبُّ ويُمَجَّد، وكيف يُعبَدُ ويُوحَّد، قال جلَّ وعلا مُبيِّنًا سبيلَ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وأتباعِه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

 

عباد الله، إنَّ واقعَنا اليومَ مع ربِّنا عز وجل مهين ومشين، فلا القلوبُ تخشَع، ولا العيونُ تدمع، ولا الجوارحُ تنقادُ بِيُسْرٍ وسهولةٍ للطاعاتِ والقربات، نشكو قسوةً في القلوب، وتحَجُّرًا في العيون، وفُتورًا في أداءِ الطاعاتِ والعبادات، وكسلًا في القيام بالواجبات، وتثاقلًا عظيمًا عن أداءِ النوافلِ والمستحبَّات.

 

ألا فَلتعلموا - عباد الله - أنَّ جميعَ العباداتِ التي شرعَها الله جلَّ وعلا، ما هيَ إلَّا مُنقياتٌ مِنَ الأدران، ومُجدِّداتٌ للإيمان، وبواعث لليقين، ومحفزاتٌ للهِمَّة، ومؤكداتٌ للميثاق الذي التزمنا بِه لله جلَّ وعلا مِنَ التصديقِ بالخبر، والامتثالِ للأمر والاجتنابِ للحظر.

 

عبدَ الله، إمَّا أنْ تكونَ ذا قلبٍ سليم، وإمَّا ذا قلبٍ زائغٍ ميِّت، لا يعرفُ معروفًا، ولا يُنكرُ مُنكرًا، وبينَ هذا وذاك القلبُ المريض، دائرٌ بينَ الحياة والموت، قال تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53].

 

ألا فاتقوا الله - عباد الله - وتعاهَدوا الإيمان في قلوبكم بالأعمالِ الصالحة، بالطاعات، بالحسنات، بالتوبة، بالاستغفار بالذكر، بتلاوةِ القرآن العظيم، والتقرُّب إلى الملكِ الدَّيَّان، إنابةً وخَشيةً، مراقبةً وتوكُّلًا، استعانةً وإخلاصًا، ولنَتَدارَك جميعًا ما نحنُ فيه منَ التقصيرِ وقلَّةِ العمل، وتذكَّروا أنَّ الأعمارَ مهما طالَتْ فهي قصيرةٌ، والدنيا مَهمَا طابتْ فهي يسيرةٌ، واليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، والكيِّسُ من دانَ نفسَهُ، وعمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجِزُ من أتبعَ نفسَهُ هواها، وتمنَّى على الله الأماني، وفي الحديث الصحيح: «أفضلُ المؤمنينَ إسلامًا من سَلِمَ المسلمونَ من لسانِه ويدِه، وأفضلُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وأفضلُ المهاجرين مَنْ هَجَرَ ما نهى اللهُ تعالى عنه، وأفضلُ الجهادِ مَنْ جاهد نفسَه في ذاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ».

 

«ومِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُهُ ما لا يَعنِيهِ»، و «دعْ ما يريبُك إلى ما لا يريبُك».

 

اللهمَّ يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.

______________________________________________

الكاتب: أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري

  • 3
  • 0
  • 350
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    "طوبى لكم أيها الغرباء" إن القابض على دينه في زمان تشتد فيه غربة الإسلام كالقابض على الجمر، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، وهؤلاء القابضون على دينهم اليوم يعيشون الغربة كما عاشها المسلمون الأوائل، وكيف لا يعيشون الغربة وهم يعيشون زمانا ابتعد أهله عن نور الوحيين، واستطالت فيه أعناق أهل الباطل وانقلبت الموازين وظهرت فيه السنوات الخدّاعات التي أخبرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (سيأتي على الناس سنوات خدّاعات يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة) [أحمد]. وفي الحديث عن الغربة في الدّين سلوى وبلسم وتثبيت لأهلها، الذين يواجهون أشد البلاء، فلعل حديثنا اليوم في هذا المقال يكون مؤنسا لهم ومذكرا، وقد قال ربنا سبحانه: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات]. ◾ من الغرباء وما صفتهم؟ وردت أوصاف هؤلاء الغرباء في عدة أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء) [مسلم]، وفي رواية أخرى قيل: "يا رسول الله، من الغرباء؟" قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي لفظ آخر: (يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، وفي لفظ آخر: (هم النزّاع من القبائل)، وفي لفظ: (هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير). قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن صفات هؤلاء الغرباء الّذين غبطهم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- التّمسّك بالسّنّة، إذا رغب عنها النّاس، وترك ما أحدثوه، وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التّوحيد، وإن أنكر ذلك أكثر النّاس، وترك الانتساب إلى أحد غير اللّه ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى اللّه بالعبوديّة له وحده، وإلى رسوله بالاتّباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقّا، وأكثر النّاس بل كلّهم لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق: يعدّونهم أهل شذوذ وبدعة، ومفارقة للسّواد الأعظمِ". [مدارج السالكين] ◾ غربة الإسلام أول نشأته قال ابن رجب -رحمه الله-: "فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجا، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة. وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم، وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-" [كشف الكربة في وصف أهل الغربة]. ◾ الإسلام اليوم أشد غربة! قال ابن القيم -رحمه الله-: "الإسلام الحقّ الّذي كان عليه رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه هو اليوم أشدّ غربة منه في أوّل ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظّاهرة مشهورة معروفة، فالإسلام الحقيقيّ غريب جدّا، وأهله غرباء أشدّ الغربة بين النّاس" [مدارج السالكين]. وقال ابن عقيل الحنبلي -رحمه الله- واصفاً حال أهل زمانه: "من عجيب ما نقدت أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله، وذكر نكد العيش فيه، وقد رأوا من انهدام الإسلام، وتشعث الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي، وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي، فلا أحد منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا تأسى على فائت دهره، ولا أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين" [الآداب الشرعية]. فهذا حال أهل زمانهم وقد مضت قرون على مقالهم هذا، فكيف لو رأوا حال أهل زماننا؟! ماذا عساهم أن يقولوا؟! فالله المستعان. ◾ الغربة الموحشة قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأهل الإسلام في النّاس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السّنّة الّذين يميّزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والدّاعون إليها الصّابرون على أذى المخالفين هم أشدّ هؤلاء غربة، ولكنّ هؤلاء هم أهل اللّه حقّا، فلا غربة عليهم، وإنّما غربتهم بين الأكثرين، الّذين قال اللّه عزّ وجلّ فيهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام]، فأولئك هم الغرباء من اللّه ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة". [مدارج السالكين] ◾ هم أهل الله حقا! وقال أيضا: "غربة أهل اللّه وأهل سنّة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة الّتي مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهلها، وأخبر عن الدّين الّذي جاء به: أنّه بدأ غريبا وأنّه سيعود غريبا كما بدأ وأنّ أهله يصيرون غرباء. وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان، ووقت دون وقت، وبين قوم دون قوم، ولكنّ أهل هذه الغربة هم أهل اللّه حقّا، فإنّهم لم يأووا إلى غير اللّه، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الّذين فارقوا النّاس أحوج ما كانوا إليهم. ومن هؤلاء الغرباء: من ذكرهم أنس في حديثه عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (ربّ أشعث أغبر، ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على اللّه لأبرّه)، وفي حديث أبي إدريس الخولانيّ، عن معاذ بن جبل، عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنّة؟) قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: (كلّ ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على اللّه لأبرّه)، وقال الحسن: المؤمن في الدّنيا كالغريب لا يجزع من ذلّها، ولا ينافس في عزلها، للنّاس حال وله حال، النّاس منه في راحة وهو من نفسه في تعب". [مدارج السالكين] ◾ غربة بعض شرائع الإسلام قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقد تكون الغربة في بعض شرائعه وقد يكون ذلك في بعض الأمكنة، ففي كثير من الأمكنة يخفى عليهم من شرائعه ما يصير به غريبا بينهم لا يعرفه منهم إلّا الواحد بعد الواحد، ومع هذا فطوبى لمن تمسّك بتلك الشّريعة كما أمر اللّه ورسوله" [مجموع الفتاوى] وصدق -رحمه الله-، فهذه شريعة الجهاد التي شوهت في زماننا، وصار أهلها أشد الناس غربة، فقد تكالب عليهم العدو بكل ملله ونحله وحوربوا حربا شعواء تواطأ فيها المنافقون والمرتدون ممن ينتسبون للإسلام زورا، حتى أضحت هذه العبادة جريمة لا فريضة!، ووصم أهلها بأبشع الألفاظ والأوصاف تحذيرا وتنفيرا، فالمجاهدون اليوم هم أشد الناس غربة، فطوبى لكم أيها المجاهدون!. ◾ لماذا عزَّ مقام الغرباء؟ قال ابن القيم -رحمه الله-: "وهذا الأجر العظيم إنّما هو لغربته بين النّاس، والتّمسّك بالسّنّة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم. فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسّكه بالسّنّة لتمسّكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنّه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم. وبالجملة: فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامّة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهّال، صاحب سنّة بين أهل بدع، داع إلى اللّه ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف". [مدارج السالكين] ◾ وصية نبوية عند الغربة ونختم مقالنا بهذه الوصية النبوية الجامعة المانعة فعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا، فقال: (أوصيكم بتقوى اللّه، والسّمع والطّاعة، وإن كان عبدا حبشيّا، فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة)" [أبو داود]. -مقالات النبأ "طوبى لكم أيها الغرباء"

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً