الفرق بين مواطن جواز الغيبة والإساءة القبيحة
إبراهيم الأزرق
ويُخطئ بعضُهم حينما يظن أن ما سوَّغ فيه العلماءُ ذكرَ المرءِ بحقٍّ يكرهه، يتَّسع ليشمل الفُحْشَ أو الشتم والسب
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
إنَّ إساءة الأدب بالبَذاء والفُحش، أو السب والشتم، كلها خصال مذمومة، وفي صحيح ابن حبان عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «إنَّ أثقلَ ما وُضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خُلُق حسَن، وإن الله يُبغض الفاحش البَذيء» "[1].
ويُخطئ بعضُهم حينما يظن أن ما سوَّغ فيه العلماءُ ذكرَ المرءِ بحقٍّ يكرهه، يتَّسع ليشمل الفُحْشَ أو الشتم والسب، أو الإقذاع والبَذاء، وليس كذلك، فذكْر المرء بما يكره، ليس بالضرورة يكون سَبًّا، ثم إنَّ ذكْر المرء بما يَكرهه مما هو فيه مقيَّد بالمصلحة في مواطن، جمعها بعضُهم فقال:
القدحُ ليس بغِيبة في ستةٍ
متظلمٍ ومُعَرِّفٍ ومحذرِ
ولمظهر فسقًا ومستفتٍ ومَن
طلب الإعانة في إزالة منكرِ
وأدلةُ جواز الغِيبة في هذه المواطن معروفة، والجمهور على جوازها، وفي بعضها نزاعٌ حاول تحريرَه العلامةُ الشوكاني في رسالته (دفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة).
وإذا كانت هذه الأمور تجوز في غيبته لداعي المصلحة، فجوازها في حضرته إن تحققتِ المصلحة كذلك، بل هو أولى؛ لأن ذكْر المرء بما هو فيه في وجهه أخفُّ من الغيبة التي عدَّها بعضُ أهل العلم من كبائر الذنوب، غير أنه ليس من لازم ذكره - في هذه المواطن - بما يكره السب، فكيف بالإقذاع والبَذاء.
ومن المَواطن التي يقع فيها اللبس، أو التلبيس بداعي الهوى: دعوى الجرح والتعديل، وموطن المناظرة والرد، أما الجرح والتعديل فللوقوف معه مقامات لا يتسع لها هذا المقال، ولعل الحديث عنه يُفرد في مقالة، وأما الرد العلميُّ فكثيرًا - ولا سيما في الأعصار المتأخرة - ما يخرج الرادُّ عن حد بيان الخطأ وتصحيح النظر، فيتعدى ذلك إلى نوع مِن القدْح لا يُسوِّغه له مقامُ بيانِ الصواب، وردِّ الخطأ، وأهل العِلم قد بينوا أنه لا يجوز في معرض الرد على المخالف إساءة الأدب، فكيف بالفحش والبذاءة؟!
قال الحافظ ابن رجب في (التحرير في الفرق بين النصح والتعيير)، مقرِّرًا جواز الرد، وبيان غلط المخطئ ما لم يقصد به الخصم تنقُّصَ المردود عليه، قال: "اعلم أن ذكْر الإنسان بما يكره إنما يكون محرَّمًا إذا كان المقصود منه مجرد الذم والعيب والتنقيص، فأما إن كان فيه مصلحة عامة للمسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة، فليس بمحرم، بل هو مندوب إليه".
قال: "وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة والغيبة، وردوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه، ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ الحديث، والتمييز بين من تُقْبَل روايته منهم وَمن لا تُقْبَل، وبين تبيُّن خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة، وتأوَّل شيئًا منهما على غير تأويله، أو تمسك منهما بما لا يُتمسَّك به، ليُحذر من الاقتداء به فيما أخطأ به".
قال: "وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا".
قال الحافظ: "ولهذا تجد كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية؛ من التفسير، وشروح الحديث، والفقه، واختلاف العلماء، وغير ذلك ممتلئة من المناظرات وردِّ أقوالِ مَن تضعفُ أقوالُه من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العلم، ولا ادَّعي أن فيه طعنًا على مَن رد عليه قوله، ولا ذمًّا ولا تنقيصًا".
قال: "اللهم، إلا أن يكون المصنف يفحش في الكلام، يُسيء الأدب في العبارة، فينكر عليه إفحاشه وإساءته، دون أصل رده"[2]، وهذا الذي ذكره هو موطنُ التنبيه؛ إذ ليس أحدٌ من أهل العلم يدعو إلى ترك الرد وبيان الحق، وتزييف الباطل، بل بعض ذلك يجب حتى في حق المخطئ من المجتهدين بالنظر إلى اعتقاده وما يدين الله به، وليس هو حكْرًا على خصم دون الآخر، ما لم يعتقد بُطلان ما ينصره، وإنما الممنوع الخروج عن حد الأدب في ذلك.
ومِن المَواطن التي يجوز فيها التبكيت: اللومُ والتقريع على سبيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو مُطلق النصح؛ قال ابن حزم: "ولا يحل بلا خلاف أذى المسلم بغير ما أمر الله تعالى أن يُؤذى به. فصحَّ مِن هذا أنَّ مَن سبَّ مسلمًا بزنا كان منه، أو بسرقة كانت منه، أو معصية كانت منه، وكان ذلك على سبيل الأذى - لا على سبيل الوعظ والتذكير الجميل سرًّا: لزمه الأدب؛ لأنه منكر... فمن بكت آخر بما فعل على سبيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فهو محْسن، ومَن ذكره على غير هذا الوجه فقد أتى منكرًا - ففرضٌ على الناس تغييرُه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرامٌ)[3]، فصح أن عِرْض كلِّ أحدٍ حرامٌ إلا حيث أباحه النص أو الإجماع، وسواء عِرْض العاصي وغيره - وبالله تعالى التوفيق"[4].
وما أشار إليه رحمه الله مِن التبكيت على سبيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر باب يدلف منه كثير مِن سَيِّئِي الأخلاق، فيدخلون منه ولا يراعون ضوابطه التي منها - على ما تقرر -: ألا يُحْدِث الإنكارُ منكَرًا فوقه، وهذا إنما يتأتى لأصحاب الولايات، ومَن كان في مقامهم عند المخاطب، أما غيرهم فكثير من الناس لا يرضى منهم التبكيت، فلا سبيل للاحتساب عليهم بغير الكلمة الطيبة إذا كان غرض المنكِر شرعيًّا حقًّا.
وقد يُغْضِي عن التأنيب والتبكيت بعضُ المُنصفين المتجرِّدين للحق، وهؤلاء الأدبُ معهم هو الواجب.
والذي يُرى في كثير من الساحات تسرُّعُ بعض طلاب العلم في التعنيف والانتقاص، فيتجاوزون حدود ردِّ الباطل، وبيان الحق، إلى إساءة الأدب مع المخالف، وهذا لا ينبغي، بل لا ينبغي لكثير منهم التبكيت - ولو لم يتضمن سوء أدب أو استطالة باللسان - على سبيل الإنكار أو الوعظ، فليس هم ممَّن يُؤْتَسى بهم إنْ بكَّتوا الخصمَ منكِرين، وليس المُغلَظُ له في الغالب ممَّن ينصلح حاله بتبكيت أمثالهم، بل قد يتمادى، بل قد يتعاطف العوام معه في باطله بحجة أنه قد أُغلِظَ له.
فكيف إذا كان المتناظران متقاربين في الدرجة، ومع المُنْكَرِ عليه من الحجج ما يجعله في عداد المتأوِّلة إن كان مخطئًا، وهذا النمط كثير بين أهل السُّنَّة.
[1] 12/ 506 (5693) وانظر (5695)، ورواه الترمذي وصححه.
[2] منقول عن السفاريني في غذاء الألباب 1/ 107 - 108.
[3] صحيح البخاري 6/ 2593 (6667).
[4] المحلى 12/ 246.