إصلاح الحياة الزوجية من سورة النساء

منذ 2024-10-05

إن من أعظم العلاقات الإنسانية التي اعتنى القرآن ببيان أحكامها وآدابها: العلاقة الزوجية، التي هي مصنع الحياة النقية، ومنبع الأجيال الطاهرة الزكية.

 

 

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

إصلاح الحياة الزوجية من سورة النساء [1] :

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ } [آل عمران102]، {﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ } [النساء1]، {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾، ﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ } [الأحزاب70-71].

 

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون، لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم لتزكية النفوس، وإصلاح علاقات الإنسان مع غيره، فبه يعرف ربه فيؤدي إليه حقوقه، وبه يهتدي إلى الطريق الصحيح في معاملة الخلق قريبهم وبعيدهم.

وإن من أعظم العلاقات الإنسانية التي اعتنى القرآن ببيان أحكامها وآدابها: العلاقة الزوجية، التي هي مصنع الحياة النقية، ومنبع الأجيال الطاهرة الزكية.

فمن قرأ القرآن وتدبره وجده قد اهتم بهذه الرابطة الحياتية اهتمامًا عظيمًا من حيث بناؤها، والحفاظ عليها، وبيان الحلول الناجعة لمشكلاتها.

 

عباد الله، إن من سور القرآن الكريم التي أولت جانب الحياة الزوجية عنايتها: سورةَ النساء. هذه السورة الكريمة سورة مدنية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في المدينة النبوية، التي صارت بيئتها ملائمة لتفصيل الأحكام والشرائع الإسلامية، فتناولت سورة النساء الحديثَ عن الحياة الزوجية من جوانب شتى، كان من بينها: إصلاح هذه الرابطة ببنائها على القواعد الصحيحة، ومعالجة مشكلاتها الطارئة عليها.

 

أيها المسلمون، افتتحت هذه السورة الكريمة بقوله تعالى: {﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾} [النساء:1].

ففي هذه الآية إشارة إلى أن الرجل أصل المرأة وهي فرع عنه، وعلى الأصل أن يعطف على فرعه، وعلى الفرع أن يحن إلى أصله ويدوم بينهما الإحسان والقرب واللطف.

 

ومما تحدثت عنه هذه السورة الكريمة: أنها حثت على الزواج الذي هو سبب بقاء النسل الإنساني، والعامل الصحيح لعفة الإنسان وصيانته، وطهارة روحه وبدنه، فدعت الناس إلى نكاح ما طاب من النساء، قال تعالى: {﴿ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء ﴾ } [النساء:3]، يعني: ما كان الزواج بهن حلالاً لا ما كان حرامًا كالمحرمات الأبدية من جهة النسب أو المصاهرة أو الرضاع، أو المحرمات الأمدية كالجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

 

ويدخل فيما طاب: اختيار ما تميل إليه نفس الرجل العاقل، ويعجبه نظره ممن تتحلى بالصفات الداعية للزواج بها؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» [2].

 

كما ذكرت الآية الكريمة السابقة بعد الحث على نكاح ما طاب من النساء: إباحة تعدد الزوجات للرجل إلى غاية أربع نسوة، ما دام قادراً على ذلك باءة ومالاً وعدلاً، أما من كان عاجزاً عن ذلك فقد أمرته بالاكتفاء بواحدة، قال تعالى:  { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا }  [النساء:3]. وهذه الإباحة ميزة من ميزات الإسلام العظيمة؛ إذ إنها تقي المجتمع الإنساني من كثرة الفساد والانحراف الخلقي، وتقلل من نسبة العنوسة والفقر، وتكثر من النسل الذي يعين على تكثير عباد الله تعالى، ويساعد على تقدم المجتمعات ونمائها.

كما أن هذه الآية الكريمة دعت إلى العدل بين الزوجات؛ إذ العدل من أسباب صلاح الحياة الزوجية، والإخلال به معول هدم يأتي على جدار الحياة الزوجية بالشق والصدع الذي قد يصل إلى الانهيار وتفرق الأسرة وتشتتها.

 

والعدل الواجب هو في القسم بين الزوجات في المبيت والنفقة، أما ما يتعلق بالمحبة والشهوة فإن الزوج يعذر فيه إن مال فيهما إلى واحدة أكثر من الأخرى أو الأخريات؛ لأن ذلك ليس بيده، فقد قال تعالى في نهاية هذه السورة الكريمة: {﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ﴾} [النساء:129].

 

قال ابن كثير: " أي: لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن حصل القسْم الصوري: ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع"[3].

لكنه تعالى قال بعد عرض العذر للرجل في قضية المحبة والشهوة: ﴿ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا ﴾ أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهم فلا تبالغوا في الميل بالكلية فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة لا ذات زوج ولا مطلقة[4].

 

ثم حثت الآية على المنهج الصحيح للرجل المعدد فقالت: {﴿ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾} " أي: وإن أصلحتم في أموركم، وقسمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض"[5].

أفلا فليتقِ اللهَ من كان له أكثر من زوجة؛ فليراعِ حقَّ العدل بينهن كما يرضى ربه تبارك وتعالى.

 

أيها الأحباب الفضلاء، كما دعت هذه السورة الكريمة أيضًا إلى إعطاء المرأة حقها من المهر الذي هو حق واجب للمرأة على زوجها، سواء كان قليلاً أم كثيراً، قال تعالى: {﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾} [النساء:4].

 

وحق المهر للزوجة واجب الوفاء على الزوج؛ لأنه مقابل التمكين، فلا يحل للزوج أن يحرمها إياه، أو يأخذ منه شيئًا إلا بطيب نفس زوجته، سواء كان ذلك حال استمرار الحياة الزوجية، أو عند الطلاق وتزوج امرأة أخرى؛ ولهذا قال تعالى: { ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾} [النساء:20] {﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾} [النساء:21]. فإذا سمحت نفس الزوجة بإعطاء زوجها شيئًا من مهرها أو العفو عنه إن كان دينًا عليه فيجوز له قبول ذلك، قال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا .

 

عباد الله، إن رابطة الزوجية شركة صغيرة لابد لها من مدير يدير شؤونها، ويصلح أمورها، ويعالج مشكلاتها إن وجدت فيها، ولاشك أن أقدر الجنسين على تقلُّد هذه الوظيفة الأسرية هو الرجل.

يقول تعالى: {﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾} [النساء:34]، وهذه القوامة هي الدرجة المذكورة في قوله تعالى: {﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾} [البقرة:228].

 

فعلى الزوج أن يحسن القيام بهذه الإدارة، بحيث يراقب الله تعالى فيها، ويراعي حقوق أهلها؛ لأن هذه الوظيفة الحياتية تكليف، وليس معناها الاستبداد والعسف. وقد أعطى الله تعالى الرجل هذه المهمة لما خصه به من خصائص فطرية وعقلية وجسمية تجعله أهلاً لها دون المرأة، فإذا سلَّم مقاليدَها للمرأة مادت سفينة الأسرة في أمواج الحياة المضطربة، وعلى المرأة أن تشكر الله تعالى حينما نظر إلى ضعفها وأحوال نفسها وعقلها فأعفاها عن هذه المهمة العظيمة.

 

أيها المسلمون، إن الحياة الزوجية لا تستقيم إلا بالمعاشرة بالمعروف، القائمة على أداء الحقوق التي دعا إليها الشرع الحكيم، والخلق الجميل، وذلك بأداء ما أوجب الله على الرجل أداءه نحو زوجته من الحقوق، ومن أعظم ذلك: حسن عشرتها، وطيب صحبتها، وإحسان الأقوال والأفعال معها. يقول تعالى في هذه السورة الكريمة: { ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾} [النساء:19]. قال ابن كثير: " أي: طيِّبُوا أقوالكم لهن، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: {﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾} [البقرة:228] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي» وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ، يُداعِبُ أهلَه، ويَتَلَطَّفُ بهم، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته، ويُضاحِك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت: سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني، فقال: (هذِهِ بتلْك).ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يَسْمُر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾} [الأحزاب: 21]"[6].

 

فإذا حصل من الزوجة شيء من التقصير في الأمور الدنيوية-وهذا شيء وارد في الحياة الزوجية من الزوج ومن الزوجة أيضًا- فعلى الزوج أن يصبر؛ فإن الاستقصاء ليس من شيم الكرام، وصبرُه هذا دون أن يلجأ إلى الطلاق قد يفضي إلى خير كثير؛ كولد صالح، وعاقبة حسنة صارت إلى ما يرضى ويحب.

 

أحبابي الكرام، ومما دعت إليه السورة الكريمة: النفقة على الزوجة، قال تعالى: {﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ } [النساء:34]؛ فإن الانفاق عليها حق واجب لها على زوجها؛ نفقتها في مطعمها ومشربها، وملبسها ومسكنها ودوائها، ويكون ذلك حسب حال الزوج يسراً وعسراً، قال تعالى: {﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾} [الطلاق:7]. وعلى الزوج أن يكون في إنفاقه وسطًا بين الإسراف والاقتار، فلا يبخل فيقصر في النفقة المطلوبة، ولا يسرف فيخرج عن الحدود المشروعة، كما عليه أن لا يجعل المال تحت تصرف من لا يحسن التدبير المالي من ولد أو زوجة خشية إفساده وإتلافه، وذلك حين يجد أنهم يسرفون أو يبددون المال فيما لا يحمد، بل عليه أن ينفق عليهم هو النفقةَ الرشيدة القائمة على الوسط والعدل، فإن رأى منهم الرشد في النفقة فلا مانع من تصرف الأولاد الكبار والزوجة في ذلك؛ لهذا قال تعالى في هذه السورة الكريمة: {﴿ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾} [النساء:5].

 

عباد الله، إن دين الإسلام دين العدل فإنه لما أمر الزوج بأداء حقوق الزوجة، فقد أمرها كذلك بأداء الحقوق التي عليها لزوجها، وهذه السورة الكريمة تضمنت ذكر ذلك، فبعد أن بينت الآيات ما على الزوج من التكاليف والأوصاف، بينت ما على الزوجة كذلك. فذكرت أن على المرأة أن تكون صالحة في دينها؛ تؤدي حق الله تعالى، وحق زوجها، فقال تعالى: {﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾} [النساء:34]. فمن حق الزوج على زوجته: أن تكون له مطيعة في كل ما أمرها به، إلا ما فيه معصية لله تعالى. فالحياة الزوجية لا تستقر إلا بطاعة الزوجة لزوجها في المعروف، فإذا فعلت ذلك فما أحسن ما ينتظرها عند الله تعالى من الثواب والرضا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلت المرأة خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت» [7].

ومن حق الزوج على زوجته كما ذكرت السورة: أن تكون الزوجة حافظة لفرجها إلا على زوجها، فلا تخونه في الفراش، ولا تمد عينيها بالاستشراف إلى غيره.

 

ومن حقه كذلك عليها: أن تحفظ ماله، فلا تبدده ولا تبذره، ولا تنفق منه إلا في المباح من غير إسراف، وبإذن زوجها، إلا إن كان شحيحًا في النفقة الواجبة، فتأخذ منه بقدر حاجتها وحاجة أولاده، ولو بدون علمه، فعن عائشة رضي الله عنها: قالت هند لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» [8].

فيا أيها الأزواج، اتقوا الله في زوجاتكم؛ فأدوا إليهن حقوقهن التي دعتكم آيات هذه السورة إلى أدائها، وإياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

 

ونقول للزوجات: اتقين الله في أزواجكن؛ فقمن بحقوقهم التي كلفكن الله تعالى بها، واحذرن التقصير في ذلك؛ فإن هضم حق الزوج طريق يورد إلى الردى، فعن حصين بن محصن رضي الله عنه أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: «(أذات زوج أنت)؟ قالت: نعم. قال: (فأين أنت منه)؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه. قال: (انظري أين أنت منه؛ فإنه جنتك ونارك)» [9].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

أيها المسلمون، إن الحياة الزوجية علاقة بشرية لا تسلم من المشكلات والخلافات، والأمور التي قد تعكر صفو الحياة المستقرة، فقد يحصل فيها الخصام والكراهية، والهجر والمباعدة، وقد تصير الأمور إلى أبعد من ذلك. ووجود هذا الكدر في صفو الحياة الزوجية قد يكون من أسبابه: ضعف تمسك الزوجين بالحقوق الزوجية التي دعت إليها الشريعة الإسلامية.

 

وفي هذه السورة الكريمة سورة النساء علاج ناجع لمشكلة النشوز بين الزوجين الذي هو مشكلة من مشكلات الحياة الزوجية. فقد جاءت الآيات لتعالج نشوز المرأة وكراهيتها لزوجها، وتأبّيها عن طاعته، وتعالج كذلك نشوز الزوج وانصرافه عن زوجته وإعراضه عنها. وغاية هذا العلاج: رجاء أن تصل سفينة الزوجية إلى شاطئ السلامة، وضفاف الاستقرار الحياتي المشترك. فقد بينت الدواء الذي يذهب داء الخلاف الزوجي الذي يمر عبر جرعات مرحلية، قد تصل أحيانًا إلى الانفصال والطلاق في حال تعذر كل الحلول المطروحة، فيغدو الطلاق حينئذ هو الحل النهائي لحياة جحيمية لا يطاق العيش فيها.

 

عباد الله، إن الزوج القائم بحقوق زوجته متى رأى منها العصيان والإعراض عن طاعته، والتمرد عن أوامره المشروعة في ظل الاستطاعة وعدم موانع التنفيذ فقد ذكرت الآيات الكريمة مراحل لعلاج هذه المشكلة، وهو علاج عقلي إرشادي، وعلاج نفسي، وعلاج بدني، فالعلاج الأول: وعظها ونصيحتها لترجع إلى حضن الطاعة، وتترك البعد عن الانقياد لزوجها. فإن لم يفد هذا العلاج فتأتي المرحلة الثانية وهي هجرها في المضجع، فينام في فراش وهي في آخر، وهذا له أثر نفسي على بعض النساء المعتادة من زوجها القرب. فإن لم يؤثر فيها الهجران فتجيء المرحلة الثالثة وفيها إباحة ضربها ضربَ تأديب لا ضرر عليها فيه، فلا لطم فيه ولا كسر ولا جرح، وهذا العلاج قد ينفع بعض النساء، بل يذكره بعض علماء النفس في تصنيف الشخصيات. قال تعالى: { ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾} [النساء:34]. فإن رجعت الزوجة إلى الطاعة فلا يحل لزوجها ظلمها بشيء مما سبق أو بغيره، فمن فعل ذلك فإن الله منتقم ممن بغى وظلم، قال تعالى: { ﴿ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾} . وهذه الحلول الثلاثة حلول داخل البيت، فإن لم تحل المشكلة فهناك حل خارجي ألا وهو الإتيان بحكمين من أهل الزوجين، بشرط أن يكونا عاقلين مريدين الخيرَ للزوجين، لينظرا في القضية، ويحكما بالحكم الأصلح العادل، قال تعالى: { ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾} [النساء:35].

 

فإذا لم يحل المشكلةَ العلاجُ الداخلي ولا العلاج الخارجي، فقد لا يتبقى إلا الطلاق، فإن كان هو الحل فليكن طلاقًا مشروعًا لا ظلم فيه، واقعًا في زمنه المناسب، كما بين فقهاء الإسلام. ومتى حصل الطلاق بالمعروف، ولم يكن فيه معصية، وكان هو الحل للخلاف الزوجي؛ فإن الله قد وعد الزوجين الصالحين اللذين افترقا بالعوض، فسيوفق الزوج لزوجة صالحة بدل زوجته، ويوفق الزوجة لزوج صالح بدل زوجها المطلٍّق، قال تعالى: {﴿ وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ﴾} [النساء:130].

 

أيها المسلمون، فإن كانت مشكلة النشوز لدى الزوج، حيث خافت الزوجة انصرافه عنها، أو قد تحقق منه ذلك فعلاً، فالعلاج هو الصلح العادل بين الزوجين، صلحًا تطيب به نفوسهما في القسم والنفقة، وعودة المودة، والمعاشرة الحسنة، فإن حصل هذا الصلح فهو خير من الطلاق، فعلى المرأة أن ترضى بذلك ولو فاتتها بعض المصالح المحتملة، ما دام أن الحياة الزوجية يمكن أن تستمر مع عدم ذلك أو قلِّته. وعلى الزوج أن يحسن إلى زوجته ويتقي الله فيها؛ فإن عاقبة الظلم وخيمة، ومنع الحقوق الواجبة عقوبته أليمة. وفي هذا يقول تعالى في هذه السورة الكريمة: { ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾} [النساء:128].

هذا وصلوا وسلموا على خير الورى....

 


[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 6/7/1439ه، 23/3/2018م.

[2] متفق عليه.

[3] تفسير ابن كثير (2/ 430).

[4] تفسير ابن كثير (2/ 430).

[5] تفسير ابن كثير (2/ 431).

[6] تفسير ابن كثير (2/ 242).

[7] متفق عليه.

[8] رواه أحمد والنسائي والطبراني، وهو صحيح.

[9] رواه أحمد والنسائي والطبراني، وهو صحيح.

 

  • 2
  • 0
  • 305

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً