اليأس والقنوط وآثاره في حياة المسلم
إن على الإنسان أن يتفاءل بالخير مهما كانت الظروف، فسوادُ الليل يأتي بعده ضياء الصباح، وإن البرق والرعد مهما كانت شدتهما، وخاف الناس من سطوتهما، فإنهما يأتيان محمَّلَين بالأمطار والخير.
إن على الإنسان أن يتفاءل بالخير مهما كانت الظروف، فسوادُ الليل يأتي بعده ضياء الصباح، وإن البرق والرعد مهما كانت شدتهما، وخاف الناس من سطوتهما، فإنهما يأتيان محمَّلَين بالأمطار والخير.
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ ** وضاق لِما به الصدر الرحيبُ
ولم تَرَ لانكشاف الضرِّ وجهًـــــا ** ولا أغنى بحيلته الأريـــــــبُ
أتاك على قنوط منك غـــــــوثٌ ** يمُنُّ به اللطيف المستجيـــبُ
وكل الحادثات وإن تناهـــــــت ** فموصولٌ بها الفَرَجُ القريـــبُ
لما جاءت إبراهيمَ عليه السلام البشرى بالولد في سن كبيرة، أبدى تعجبه؛ فقال: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]، فماذا كان جوابهم؟ {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 55، 56].
ويعقوب عليه السلام وقد فَقَدَ ولدَيه وبصرَه أربعين عامًا، وما زال أمله بالله أن يردهما إليه، وأن يجمعهما به، فكان يوصي أبناءه قائلًا لهم: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وحقَّق الله أملَ يعقوب ورجاءه، وردَّ عليه بصره وولديه، لم يتطرق اليأس إلى قلبه لحظة واحدة؛ لأن قلبه موصول بالله، متوكِّل عليه، واثق من قدرته ورحمته.
وهذا موسى عليه السلام وقومه وقد تبِعهم فرعون وجنوده، حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعونُ من خلفهم، قال اليائسون والمتشائمون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، فقال لهم نبيُّ الله موسى عليه السلام في ثقة وتفاؤل ويقين، يريد أن يصنع حياتهم ومستقبلهم من جديد: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، فأمَرَه الله سبحانه أن يضرب بعصاه البحر، فانشقَّ نصفين، وكان كل فِرْقٍ كالطود العظيم، ومشى مع قومه في طريق يبسٍ.
عباد الله:
اليأس والقنوط من أسباب فساد القلوب ومرضها، وله صور متعددة؛ مثل: اليأس والقنوط من مغفرة الله للذنوب، واليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب، واليأس من التغيير للأفضل؛ ويتمثل في يأس الإنسان من تحصيل ما يرجوه في أمر من أمور الدنيا كجاهٍ، أو مال، أو زوجة، أو أولاد وغيرها، ومنها اليأس من نصر الإسلام، وارتفاع الذُّلِّ والمهانة عن المسلمين.
أما آثاره السيئة على القلوب، فإن اليأس والقنوط قد يقودان المرء للكفر والضلال؛ قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]، وقال: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
قال السعدي: "يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان، أنه جاهل ظالم بأن الله إذا أذاقه منه رحمةً؛ كالصحة، والرزق، والأولاد، ونحو ذلك، ثم نزعها منه، فإنه يستسلم لليأس، وينقاد للقنوط"؛ (تيسير الكريم الرحمن، للسعدي).
قال ابن عطية: "اليأس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين"؛ (المحرر الوجيز، لابن عطية).
ومن هذه الآثار السيئة: أن اليأس والقنوط فيه تكذيب القلب لله ولرسوله، وسوءُ أدبٍ مع الله سبحانه وتعالى؛ قال القرطبي: "اليأس من رحمة الله... فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجَّر واسعًا، هذا إذا كان معتقدًا لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، وبعده القنوط؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]؛ (انظر: الجامع لأحكام القرآن، بتصرف يسير).
معاشر المسلمين:
اليأس والقنوط داءٌ ابتُلِيَ به كثير من الناس، لأسباب كثيرة، ودواعٍ عديدة؛ فمن الناس من أُصيب باليأس والقنوط، نتيجة جهله بالله تعالى، وعدم معرفته بسَعَةِ رحمة الله، وعظيم فضله وكرمه وإحسانه.
ومن الناس مَن أُصيب باليأس والقنوط، بسبب غلوِّه وإفراطه في الخوف من الله تعالى، حتى وقع في اليأس من روحه، والقنوط من رحمته، فحَدُّ الخوف ما حجزك عن المعاصي، أما ما زاد عن ذلك، فغير محتاج إليه؛ لأنه يُوقِع صاحبه في اليأس والقنوط، وفيه سوء أدب مع رحمة الله التي سبقت غضبه، سبحانه.
ومن الناس من أُصيب باليأس والقنوط، نتيجة مصاحبته لليائسين والقانطين والمقنِّطين؛ فإن مصاحبة هؤلاء والإنصات إليهم، والاستسلام لكلامهم، والركون إلى أقوالهم باعثٌ قويٌّ على القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
ومن الناس من أُصيب باليأس والقنوط؛ لقلة صبره وتحمُّله واستعجاله النتائج؛ فإن ضعف النفوس عن تحمُّل البلاء والصبر عليه، واستعجال حصول الخير، باعثٌ على اليأس والقنوط، لا سيما مع طول الزمن، واشتداد البلاء على الإنسان.
ومن الناس من أُصيب باليأس والقنوط، نتيجة شدة تعلُّقه بالدنيا، والركون إليها، والفرح بأخذها؛ فهو يحزن ويتأسَّف على ما فاته منها من جاهٍ وسلطان، وأولاد ومال وعافية؛ وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، ويقول سبحانه: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49]، ويقول عز وجل: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83].
عباد الله:
كيف يمكن لقلوبٍ مُعلَّقة بخالقها ورازقها أن يُصيبها اليأس والقنوط؟ أو كيف لها أن تُصاب بهذا الداء وقائدها وقدوتها صلى الله عليه وسلم، الذي كان إمامًا في التفاؤل والثقة بوعد الله تعالى، وكان يحارب اليأس والقنوط والتشاؤم، ويصنع الحياة، ويزرع الأمل مهما كانت الظروف؟ والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد ذلك، يخاطب صلى الله عليه وسلم يومًا عَدِيَّ بنَ حاتم يبشِّره ويقول، كما روى ابن هشام في سيرته: «لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم -أي حاجة المسلمين وفقرهم- فوالله لَيُوشِكَنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عَدَدِهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله، ليُوشِكَنَّ أن تسمع بالقصور البِيضِ من أرض بابل قد فُتحت عليهم»، قال عدي: فأسلمتُ.
بل عندما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أرسلت في طلبه قريشٌ، وقد أباحت دمه، وهو في الصحراء لا طعام ولا شراب، والموت يترصَّده في أي لحظة، فإذا بسراقة بن مالك أحد فرسان قريش خلفه، قد غاصت قدما فرسه في التراب، فينظر إليه رسول صلى الله عليه وسلم قائلًا له بكل ثقة وتفاؤل: «يا سراقةُ، لِمَ تصنع هذا» ؟ قال: إن قريشًا قد وعدوني بكذا من الإبل، قال: «أوليس لك بخير منها؟ قال: وما هما؟ قال: سوارَي كسرى»؛ (رواه البخاري ومسلم).
فمهما كانت همومك ومصائبك، لا تيأسوا من روح الله، ولا تقنطوا من رحمته، ففَضْلُ الله عظيم، وكرمه جزيل، وعطاؤه عميم، ورحمته وسعت كل شيء؛ وقد قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]؛ فلا تيأسوا ولا تقنطوا عباد الله، فقد رأينا الله يملأ القلوب اليائسة بالأمل، ورأيناه يرُدُّ الحياة إلى أجساد حَكَمَ عليها الأطباء بالعدم، ورأينا الله يرد إلى المظلوم حقه، وإلى المحروم أضعاف الحب الذي فَقَدَهُ، وإلى الباكي ابتسامته التي مسحها الزمن من فوق شفتيه، ورأينا الله يجرِّد الباطل من كل أسلحته، ويسلِّط الأنوار على الحق المدفون تحت التراب، فيلمع كما تلمع الجواهر في سواد الليل، ويمنح بركته لأصابع جِراحٍ ويساعده على تحقيق معجزة تفوق مستوى البشر، ورأيناه يعوض الناس، فيُعطي الأعمى عقلًا يحوِّل الصوت إلى صورة، ويمنح الْمُقعَد خيالًا يمشي به إلى آخر الدنيا، سبحانك ربي ما أكرمك! قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
فإن للتفاؤل ثمراتٍ في حياة الإنسان مهما كانت الظروف والأحوال؛ فبه تتجدد الحياة، ويزيد الإنتاج والعطاء، وبه يتغلب المرء على المعوِّقات والصِّعاب، وهو طريق للتوبة والرجوع إلى الله، وترك الذنوب والمعاصي والسيئات؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
والتفاؤل يبعث في النفوس الراحة والطمأنينة؛ فلا يخاف المؤمن على رزقه، ولا يخشى من أجَلِه؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145].
والتفاؤل يدفع المؤمن ليُحسِنَ الظن بالله، ويوجِّهه ليصنع من المحنة مِنْحَةً، ومن الكرب والعُسر والضيق طريقًا وسبيلًا للبحث عن الفَرَج واليُسر والخلاص.
فثِقُوا بالله، وأمِّلوا به، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل، ولا تكونوا مِعوَلَ هدمٍ، ولا سببًا في تقنيط الناس من رحمة الله، وابذُروا الخير والأمل، واعملوا على تآلُفِ القلوب واجتماع الصفوف، فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب والفتن والابتلاءات بابًا إلى خير مجهول، ورُبَّ محنة في طيِّها منحة؛ يقول سبحانه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
فقد مرَّتِ الأُمَّة بأزماتٍ وفِتنٍ، وابتُلِيَت بمصائب، فدفع الله عنها ذلك، وحفِظها من كل سوء، وبعث فيها الحياة من جديد عندما عادت إليه، وصدقت في حمل دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومهما خطط البشر، ومهما بلغ كيدهم ومكرهم، فإن الله من ورائهم محيط، ولا يكون إلا ما يريد؛ قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
فاللهم رُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا، هذا، وصلُّوا وسلِّموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
- التصنيف: