الغيرة في الإسلام
الغيرة خلق محمود من أخلاق المؤمنين، تدل على كمال الرجولة، وعلو الهمة، وأصالة الأخلاق، وطيب الأعراق، بل إن الله عز وجل يغار، ولا أحد من عباده أغير منه.
أيها المسلمون، إن هذا الدين العظيم جاء بكل خلق كريم، والأخلاق الإسلامية تعتبر من دعائم وركائز هذا الدين العظيم الذي رضيه الله تعالى لهذه الأمة المباركة {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
والقرآن الكريم كلام رب العالمين مملوء بالحث على مكارم الأخلاق، وحسن التأدب مع حسن الخطاب، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53].
أيها المسلمون، عنوان هذه الخطبة الغيرة في الإسلام، الغيرة خلق محمود من أخلاق المؤمنين، تدل على كمال الرجولة، وعلو الهمة، وأصالة الأخلاق، وطيب الأعراق، بل إن الله عز وجل يغار، ولا أحد من عباده أغير منه.
إن الغيرة خلق كريم جُبِل عليه الإنسان السويُّ الذي كَرَّمه ربُّه وفضَّله، وقد أعلى الإسلام قدرها وأشاد بذكرها، ورفع شأنها حتى عَدَّ الدفاع عن العرض والغيرة على الحريم جهادًا يُبذل من أجله الدم، ويُضحى في سبيله بالنفس، ويُجازى فاعله بدرجة الشهيد في الجنة، فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد».
أيها الناس، الحديث عن الغيرة حديثٌ مُتشعِّبٌ، وحديثٌ ذو شجون، وهناك غيرة محمودة ومشروعة، وهناك غيرة مذمومة، وليس حديثنا في هذه الجمعة عن الغيرة على المحارم، وإن كان الحديث عن ذلك مهمًّا، ونحن بحاجة إليه، وخاصة في مثل هذه الأيام؛ حيث حصل عند الكثير من المسلمين رِقَّةٌ في الدين، وضعفٌ في الغيرة على المحارم إلا من رحم الله؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله؛ ولذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن»؛ (متفق عليه).
عباد الله، حديثنا سيكون بإذن الله تعالى عن الغيرة على حرمات المسلمين، الغيرة على الدماء المحرمة التي تُسفك ليلًا ونهارًا، في كثير من أرض المسلمين، وعلى وجه الخصوص في أرض فلسطين وغزة، في تلك البلاد التي بارك الله فيها، وهي أرض الشام، حديثنا عن الغيرة على ما يحصل في بلاد الإسلام، من حرب على الدين والتديُّن، وحرب على الأخلاق، وحرب على الرجولة والشهامة، وحرب على مظاهر التديُّن، وحرب على الفضيلة، وفي المقابل نشر وتشجيع وتمويل للرذيلة.
الغيرة من مظاهر الرجولة:
الغيرة في موضعها مظهرٌ من مظاهر الرجولة الحقيقية، وفيها صيانة للأعراض، وحفظ للحرمات، وتعظيم لشعائر الله وحفظ لحدوده، وهي مؤشر على قوة الإيمان ورسوخه في القلب؛ ولذلك لا عجب أن ينتشر التحلُّل والتبرُّج والتهتُّك والفجور في أنحاء العالم الغربي وما يشابهه من المجتمعات؛ لضعف معاني الغيرة أو فقدانها.
ولقد رأينا هذا الخلق يستقر في نفوس العرب حتى الجاهليين الذين تذوقوا معاني تلك الفضائل، فإذا هم يغارون على أعراض جيرانهم حتى من هوى أنفسهم، يقول عنترة مفاخرًا بنفسه:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي ** حتى يواري جارتي مأواهـــا
أيها المسلمون، إن الغيرة على دين الله وحرماته من صفات المؤمنين الأعزاء، فالغيرة من مقتضيات الإيمان، تقوى هذه الغيرة بقوة الإيمان، وتضعف بضعفه.
أيها الناس، دعونا ننتقل نحن وإياكم ونحلق في قضايا جيل السلف الصالح من الصحابة الأخيار، والتابعين وتابعي التابعين الأبرار، ذلك الجيل المعطر بورود الإيجابية؛ حيث ننظر إلى بذلهم وعطائهم، وما ضحوا به من أجل دينهم، وعقيدهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.
أيها الناس، تعالوا بنا نعود بذكرياتنا إلى الصور الرائعة لسلف هذه الأمة من الصحابة الأخيار والتابعين وتابعي التابعين الأبرار، حيث يتجلَّى الإيمان الحق، حيث برزت فيهم حقيقة الهم لهذا الدين.
تنقلنا الذاكرة إلى سوق بني قينقاع، حيث يعتدي يهودي على امرأة مسلمة ويكشف عورتها، فصاحت تلك المرأة المسلمة العفيفة، فتثور ثائرة مسلم غيور على دينه، من أجل كرامة المرأة المسلمة، ويأبى الدنية في دينه، وينهض بكل عزة وإباء، ويقتل ذلك اليهودي.
واليوم عشرات ومئات من النساء المؤمنات في أرض فلسطين وغزة، ينزع اليهود حجابهن ويسحبونهن على الأرض وهن يصِحْنَ: يا الله، أين المسلمون؟ أين أهل الغيرة والحمية الإسلامية؟ ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حيًّــــــــا ** ولكن لا حياة لمن تنـــــــــــــادي
لمثل هذا يموت القلب من كمد ** إن كان في القلب إسلام وإيمان
أحداث صنعتها الغيرة:
ذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في حوادث سنة ست وثمانين ومائتين: قال في المنتظم: ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري (مدينة في إيران اليوم)، فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببيِّنة تشهد لها به، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمَّموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدَّعيه. فأقر بما ادَّعتْ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر: هو في حِلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة، زاد الحافظ السمعاني في الأنساب: فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكْتَبُ هذا في مكارم الأخلاق.
ويذكر بعض المؤرخين في حسنات الحجاج بن يوسف الثقفي: أن امرأة مسلمة سُبِيت في الهند، فنادت: واحَجَّاجاه، وبلغه ذلك، فجعل يقول: لبيكِ، وأنفق سبعة ملايين من الدراهم حتى أنقذ المرأة.
وهذه امرأة شريفة أسرها الروم، لا تربطها بالخليفة المعتصم بالله رابطة، سوى أخوة الإسلام، تستنجد به لما عذبها صاحب عمورية، وتطلقها صيحة يسجل التاريخ دويَّها الضخم: وامعتصماه!. وما إن بلغت المعتصم هذه الندبة - وكان يأخذ لنفسه شيئًا من الراحة - حتى قالها بملء جوارحه: لبيكِ. وانطلق لتوِّه إلى القتال، وانطلقت معه جحافل المسلمين، وقد ملأت الغيرة لكرامة المرأة نفس كل جندي إباءً وحماسًا، فأنزلوا بالعدو شرَّ هزيمة، واقتحموا قلاعه في أعماق بلاده حتى أتوا عمورية، وهدموا قلاعها، وانتهوا إلى تلك الأسيرة، وفَكُّوا عقالها، وقال لها المعتصم: اشهدي لي عند جَدِّك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك.
وفي القرن السابع الهجري حين ضرب التفرق أطنابه بين المسلمين حتى أضعفهم، واحتل الصليبيون قسمًا من بلادهم، وطمعوا في المزيد، واستعانوا ببعضهم على بعض، حتى أوشكوا أن يحتلوا مصر، فكر حاكم مصر الفاطمي آنذاك المدعو العاضد لدين الله أن يستعين بوالي الشام نور الدين زنكي، ولكن كيف وملك الشام لا يعترف بالخليفة الفاطمي في مصر، ولا يؤمن بشرعية خلافته وحكمه؟! إنما يدين بالاعتراف للخلافة العباسية في بغداد، وبينها وبين الفاطميين أشد الخصام.
لقد وجد الحل بواسطة المرأة والغيرة على كرامتها، وهكذا أرسل العاضد إلى نور الدين زنكي رسالة استنجاد أرفقها بأبلغ نداء: أرفقها بخصلة شعور نساء بيت خلافته في القاهرة، وكان أن بلغ التأثير مداه في قلب نور الدين، فسرت حُمَيَّا الغيرة والنخوة في جند الشام وأهله، فبذلوا - لإنقاذ مصر من الصليبيين - فلذات أكبادهم بقيادة أسد الدين شيركوه، ويوسف بن أيوب صلاح الدين الأيوبي.
وهكذا صنعت المرأة بخصْلة شعرها حدثًا غيَّر مجرى التاريخ، وقلب الأحداث رأسًا على عقب، إلى أن كان يوم حطين الذي غسل الأرض المقدسة من العار، وأرغم جحافل الصليبيين على حمل عصا الرحيل والتسيار.
إن حياة الغيرة التي يحياها المجتمع المسلم، التي يسمو بها فوق النجوم رفعة، ويرتقي بها إلى أعلى المنازل فضلًا وطهرًا، يقابلها في المجتمعات الكافرة في الشرق والغرب حياة الدياثة والخباثة والقذارة والحقارة واللوثة والنجاسة، والذلة والمهانة، التي قد تترفع عنها بعض الحيوانات؛ حيث تغار فحولها على إناثها، ويقاتل الفحل دون أنثاه كل فحل يعرض لها حتى تصير إلى الغالب.
وصدق والله أئمتنا حين قالوا: إن كل أمة ضعفت الغيرة في رجالها قلت الصيانة في نسائها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
____________________________________________________
الكاتب: أبو سلمان راجح الحنق
- التصنيف: