كارتر والبرادعي والمربع (-1)
العودة إلى "المربع صفر" تعبير يُتداول كثيرًا في الخطاب الإعلامي، وهو واقع تعيشه مصر الثورة منذ أن انتقلت من المربع صفر إلى "المربع واحد".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالعودة إلى "المربع صفر" تعبير يُتداول كثيرًا في الخطاب الإعلامي، وهو واقع تعيشه مصر الثورة منذ أن انتقلت من المربع صفر إلى "المربع واحد".
وأعني بالمربع صفر: ما حدث يوم 11 فبراير من تنحي مبارك وتولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد لفترة انتقالية وسط ترحيب مِن كل قوى الشعب لا سيما الثوار الذين عبَّروا عن ذلك بإخلاء الميادين، ثم صدر الإعلان الدستوري يوم 12 فبراير الذي أعطى المشروعية الدستورية لهذا الوضع؛ لتصنف ثورة مصر آنذاك بأنها ثورة دستورية أسقطت رؤوس الفساد، وارتضت بالانتقال المباشر إلى مرحلة إعادة البناء واستكمال التطهير عبر مؤسسات دستورية وقانونية، وهذا المسلك هو الوحيد المناسب للثورة المصرية لأسباب ليس هذا هو مجال ذكرها، ثم إنه هو الخيار الذي قَبِله الشعب عن بكرة أبيه حتى لو افترضنا وجود خيارات أخرى.
كان هذا هو المربع صفر، وكان "المربع واحد" هو وضع خارطة الطريق -وبطريقة دستورية أيضًا-، وتم الاستفتاء عليها في 19 مارس 2011م، لتخطو الثورة المصرية خطوة عظيمة، وليكون استفتاء الثورة هو أول استفتاء تذهب إليه وأنتَ لا تعرف نتيجته إلا بعد فرز الأصوات!
كان هناك مَن يوافق على خارطة الطريق؛ فحشد الناس على قول: "نعم".
وهناك مَن كان يرى خارطة أخرى؛ فحشد الناس على قول: "لا".
وكلٌ بذل جهده لإقناع الناس، وظن كل فريق أنه ربح الجولة، ولم تكد تعلن النتيجة بأن 77% قالوا: "نعم" -موافقين لرؤية التيار الإسلامي- حتى خرجت علينا وسائل الإعلام الليبرالية؛ فلم تترك وسيلة إلا ولجأت إليها مِن أجل الرجوع إلى "المربع صفر"، بينما التيار الإسلامي يحاول الانتقال بالبلاد إلى "مربع 2" مربع انتخابات مجلس الشعب، ثم "مربع 3" انتخابات مجلس الشورى، ثم "مربع 4" الدستور، ثم "مربع 5" انتخابات الرئاسة، فكان هناك مَن يحاول العودة إلى المربع صفر "أعني العودة إلى التفاوض حول خارطة الطريق التي تم حسمها بالفعل في استفتاء 19 مارس!".
وفي هذا الصدد قُدمتْ وثائق، وعقدتْ مؤتمرات، ودُعي إلى وقفات، ودارت مواجهات اختلط في كثير منها الحابل بالنابل، واختلط الأمر على كثير مِن الشباب المخلص الذي استجاب إلى فاعليات رُفعت لها لافتات، بينما لم يرد أصحابها إلا العودة إلى "المربع صفر"، ثم رسم خارطة طريق أخرى قائمة على أساس ما أسموه: "شرعية الثورة" متناسين أن "استفتاء 19 مارس" هو نتاج شرعية الثورة، ولكن الذي يريدونه في واقع الأمر هو: "ديكتاتورية الأقلية في مواجهة إرادة الأغلبية!".
ورغم أنَّ لنا الكثير مِن المآخذ على إدارة "المجلس العسكري" للفترة الانتقالية، لكن يُحسب له أنه استطاع -في النهاية وبعد طول انتظار- أن يقود البلاد إلى "المربع الأهم على الإطلاق" في مسيرة إعادة بناء مؤسسات الدولة؛ ألا وهو "انتخابات مجلس الشعب"؛ التي أسفرت نتائجها عن تحول الكابوس الذي أرَّق العالمانيين إلى حقيقة، وأن الشعب اختار الإسلاميين في 75% من الأحوال، واختار في الـ 25% الباقية أقرب الناس إلى الإسلاميين -الذين أرجو ألا تكون تصريحاتهم باحترام الشريعة الإسلامية مجرد وعود انتخابية-.
وبينما يتطلع الشعب إلى قرب انتهاء المرحلة الانتقالية -لا سيما مع وجود مخاوف كثيرة مِن تحولها إلى وضع دائم- ما زال البعض يريد أن يعود بنا إلى المربع صفر!
ولكن مِن هؤلاء مَن كان أعمق نظرة وإدراكًا أن قواعد اللعبة واحدة، وأنه حتى لو عدنا إلى المربع صفر ثم قررنا الدستور أولاً، أو غيرنا نظام الانتخابات؛ فإن النتيجة لا يمكن أن تُغير مِن وضع تيار يمتلك حوالي 75% مِن أصوات الناخبين، ومِن ثَمَّ فإن بعضهم أراد أن يعود بنا إلى المربع "-1" أعني إلى مربع ما قبل الثورة المصرية؛ لكي تقوم "ثورة ثانية" متفادية أخطاء الثورة الأولى! والتي كان مِن أبرزها "مِن وجهة نظرهم" أنها لم تمارس ديكتاتورية الثورة، وأنها قَبِلت بالإصلاح عبر الطرق الدستورية.
ومِن أبرز مَن تخطى محاولة العودة إلى المربع صفر إلى العودة إلى المربع "-1" الدكتور "محمد البرادعي" الذي أطلق بيانًا تَنحى فيه عن منصب "المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية"، أو بتعبير آخر: انسحب مِن الترشح للرئاسة. أو بتعبير أدق -وفق وصف الدكتور "عمرو حمزاوي"-: أنه تراجع عن نية الترشح للرئاسة؛ لأنه لا مجال للانسحاب مِن أمر لم يبدأ بعد.
وواقع الأمر أن الرجل لم يتنحَ، ولم ينسحب، ولم يتراجع، وإنما فقط أعاد توصيف المشهد بمشهد "الانسداد السياسي" الذي تسبب في ثورة 25 يناير؛ حيث كان البرلمان مزورًا، والدستور لا يسمح بالترشح للرئاسة إلا للرئيس وولده -وربما وحفيده!-، وكان جهاز "أمن الدولة" في أوج نشاطه، وكان "الأمن المركزي" الذراع الباطش على أهبة الاستعداد!
وفي هذه الأثناء وجد "البرادعي" نفسه الوحيد الذي يستطيع أن يقول: "لا". وأن يتمها دون أن يُكمم فمه أو أن يُضطر إلى مشاهدة جحافل الأمن -التي اعترف أنه لم يرها في حياته إلا يوم جنازة "خالد سعيد"!-، هنالك تخلى "البرادعي" عن دور سفير "مصر مبارك" أمام العالم، وهو الذي كان إذا أتى إلى مصر حرص على زيارة الرئيس وقرينته، وعاد هذه المرة مِن طائرته إلى قصره دون المرور على قصر الرئاسة، وليعلن أنه كفى لـ"مبارك" ما قدَّمه لمصر، وعليه ألا يترشح ثانية للرئاسة.
ورغم أنه في الظروف الطبيعية كان يمكن لأصغر ضابط في فرع أمن الدولة بمحافظة الجيزة أن يصدر أمر اعتقال؛ إلا أن شخصية في شهرة "البرادعي" الدولية لا يمكن أن يتم معه هذا، ولا مِن وزير الداخلية، ولا ممن فوقه!
ومِن ثَمَّ وجدت قناعة لدى الجميع أننا وجدنا أخيرًا مَن يقول للنظام: "لا" دون أن يقدر النظام على الاقتراب منه، ومع هذا اختلفت ردود أفعال الناس حيال هذا الأمر: فمنهم مَن خاف أن يستبدل رئيس بآخر يختلفان في كل شيء إلا العلاقة مع أمريكا -وهي بيت الداء-. ومنهم مَن اصطف خلف "البرادعي" طالما أنه قادر على قول: "لا"؛ بغض النظر عن مصدر هذه القوة.
ومِن ثَمَّ طالبت هذه الجموع "البرادعي" أن يعلن ترشحه للرئاسة؛ ولأن الترشح له تبعاته فإن الدكتور "البرادعي" أعلن أن لديه استعدادًا للترشح إذا تم تغيير الدستور وإذا تحسن المناخ السياسي، وهو أمر لم يحمله أحد على محمل أنه نوع مِن الكبر والتعالي، ولكن حملوه على أنه مطلب عادل له ولغيره.
وقامت الثورة، وحافظت على الشرعية الشعبية ولم تنزلق إلى الديكتاتورية، وحاول "البرادعي" وحاول أنصاره أن يجعلوه رئيسًا معينًا أو عضوًا في مجلس رئاسي معين، وأخيرًا حاولوا جعله رئيسًا للوزراء عنوة! وحاول مَن حاول عرقلة أهم خطوات خارطة الطريق -مجلس الشعب المنتخب-، ولكنه تم بفضل الله -تعالى-، ثم بفضل إصرار الجماهير على إتمامه.
وهنا أدرك "البرادعي" أن فرصته في الوصول عبر الإرادة الشعبية شبه منعدمة، وأدرك أن الرجوع إلى "المربع صفر" شبه مستحيل؛ فكان القرار هو الرجوع إلى المربع "-1" حيث الحديث عن المناخ الديمقراطي غير الملائم، وعن الدستور، وعن... وعن... رغم وجود مجلس شعب منتخب، ودستور يفتح باب الترشيح للرئاسة على مصراعيه لمن يملك الحد الأدنى مِن التواجد الشعبي!
ومع هذا فـ"البرادعي" يرى أن الأمور لم تتغير قيد أنملة، وربما يكون الأدق أنها تحركت عكس الاتجاه الذي كان البعض يتمناه!
فمِن ثَمَّ انتقل "البرادعي" مِن خانة المرشح المحتمل للرئاسة -وبالمناسبة فهو وصف سوف يفقد بريقه تمامًا بمجرد انعقاد مجلس الشعب المنتخب، وكما أنه سيكون له تبعات بعد فتح باب الترشيح لانتخابات الرئاسة ليصبح مَن يقدم أوراقه مرشحًا حقيقيًا للرئاسة، وعليه أن يقدم رؤى ويطرح برامج، ويتفاعل مع مشكلات، وهي جلبة لم يعتد كثير ممن قدَّم نفسه كمرشح "محتمل" للرئاسة عليها، ومِن ثَمَّ يصعب عليهم الانتقال مِن المرشح المحتمل للمرشح الحقيقي- وبالتالي فقد تراجع "البرادعي" للخلف بدلاً مِن المضي إلى الأمام؛ ليعود إلى دور الملهم لثورة الشباب؛ حتى ولو مِن باب إنكار حقائق: كحقيقة أن شعبًا بأكمله خرج وانتخب وقرر، وأصبح له ممثلون وأن الدنيا لم تعد مجلسًا عسكريًا فحسب.
وعجيب أن يرى أحد أن هذا المناخ غير ملائم لانتخابات الرئاسة، وهو الذي كان يرى أنه مِن الممكن أن توجد انتخابات رئاسة في ظل وجود المجلس العسكري منفردًا، وهو الذي كان يرى أن المجلس العسكري مِن الممكن أن يعين مجلسًا رئاسيًا مدنيًا!
وعلى أي فقد عاد "البرادعي" إلى المربع "-1" بدلاً مِن الانتقال إلى المربع رقم "5" ضاربًا بذلك الرقم القياسي للتراجع إلى الخلف؛ فهل شاركه أحد في تلك الرؤية؟!
بلا شك سوف يتضح موقف شباب مصر في يوم خمسة وعشرين يناير القادم؛ لا سيما وأنه قرر أن يقود أتباعه بنفسه يوم 25 يناير -"هل يتذكر أحد أين كان البرادعي يوم 25 يناير الماضي؟! وهل يتذكر أحد هؤلاء النفر الذين ضايقوا ملهم الثورة المصرية يوم 28 يناير؛ فقرر العدول عن نزول التحرير وعاد من حيث أتى؟!"-.
ولكن الساسة أعلنوا موقفهم حيث جاء موقف غالبيتهم حتى ممن يشتركون معه في الرؤية الليبرالية أننا نرفض العودة إلى الخلف بينما أيده بعضهم، ولكن المفاجأة الكبيرة أن تتوافق تلك الرؤية التشاؤمية مع رؤية "كارتر" -رجل السلام!- الذي دعا ضمنيًا إلى العودة إلى نفس المربع "-1" بعبارات خاطفة، قال فيها: "إن المجلس العسكري لن يترك السلطة بسهولة".
قالها "كارتر" وركب طائرته وانصرف، وها نحن ننتظر يوم خمسة وعشرين يناير: هل سننتقل إلى أخر خطوات خارطة الطريق التي اخترناها لأنفسنا أم سننفذ الإرادة الأمريكية ونعود للمربع "صفر" آسف "-1"؟!
- التصنيف: