تفسير قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
وقد بيَّنَ ذلك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: «حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى»
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 102].
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ طاعةِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لما يضمرونه من العداوة لأهل الإيمان، أمرهم سبحانه بتقواه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}؛ أي اتَّقُوا اللَّهَ كما يجبُ أَنْ يُتَّقَى، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وقد بيَّنَ ذلك عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى»[1].
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ، أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مُحْكَمَةٌ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وهو قول قَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُقَاتِلٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، فَعَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، قَالَ: نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي التَّغَابُنِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16]، وَعَلَيْهَا بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا[2].
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ الْعَمَلُ، فَقَامُوا حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنُسِخَتِ الآيَةُ الْأُولَى[3].
وَعَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، «فَلَمْ يُطِقِ النَّاسُ هَذَا، فَنَسَخَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ»، فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [4].
الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وهو قول ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، واختاره أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَاس، ونَصَرَ القولَ بعدم النَّسخِ الفخرُ الرازي، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، قَالَ: «لَمْ تُنْسَخْ، وَلَكِنْ حَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَلَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ»[5].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْمَنْسُوخِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ الرَّافِعُ لَهُ الْمُزِيلُ حُكْمَهُ[6].
وقال الرازي: مَعْنَى قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ}؛ أَيْ كَمَا يَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجْتَنَبَ جَمِيعُ مَعَاصِيهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنَّ يُنْسَخَ لِأَنَّهُ إِبَاحَةٌ لِبَعْضِ الْمَعَاصِي[7].
فالذين قالوا بأن الآية محكمة وليست منسوخة، قالوا: إن قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، جاء مفسرًا لقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ}، لا ناسخًا له، ولا مخصِّصًا له؛ لأن التَّكْلِيفَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمَصِيرِ إِلَى النَّسْخِ.
{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: ثم أمر تعالى بالتمسك بِالْإِسْلَامِ، والعَضِّ عليه بالنواجذِ، وَنَهْي عَنْ مُفَارَقَته، أو مخالفة شيء من تشريعاته؛ ليبعث المرء عليه يوم القيامة؛ فإنَّ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بُعث عَلَيْهِ.
الأَسَالِيبُ البَلَاغِيةُ:
من الأَسَالِيبِ البَلَاغِيةِ: الإيجازُ في قوله: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، فهو يشمل امتثالَ كل أمرٍ، واجتناب كل نهي كما قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
والإيجازُ في قوله: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، والمعنى: داوموا على الثبات على الإسلام فإِذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك.
[1] رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، كتاب التفسير، حديث رقم: 3159، والنسائي في السنن الكبرى- كِتَابُ الْمَوَاعِظِ، حديث رقم: 11847، والزهد لعبد الله بن المبارك، حديث رقم: 22، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 239)، موقوفًا.
[2] تفسير الطبري (5/ 642)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص: 282)، وتفسير عبد الرزاق (1/ 406).
[3] تفسير ابن أبي حاتم (10/ 3358).
[4] تفسير الطبري (5/ 642).
[5] الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (ص: 260)، وتفسير الطبري (5/ 641)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 722)، وتفسير ابن المنذر (1/ 318).
[6] الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص: 70).
[7] مفاتيح الغيب للرازي (8/ 310).
____________________________________________________
الكاتب: سعيد مصطفى دياب
- التصنيف:
عنان عوني العنزي
منذ