إسرار الندامة هو من بعض العذاب
محمد الطاهر بن عاشور
اقتباس من تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور من موقع الباحث القرآني
- التصنيفات: التفسير -
﴿وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ وقُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ سورة يونس الآية 54
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ كَلامٍ عَلى كَلامٍ. وضَمِيرُ أسَرُّوا عائِدٌ إلى كُلِّ نَفْسٍ بِاعْتِبارِ المَعْنى مَعَ تَغْلِيبِ المُذَكَّرِ عَلى المُؤَنَّثِ، وعَبَّرَ عَنِ الإسْرارِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي تَنْبِيهًا عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتّى كَأنَّهُ قَدْ مَضى، والمَعْنى: وسَيُسِرُّونَ النَّدامَةَ قَطْعًا. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾
والنَّدامَةُ: النَّدَمُ، وهو أسَفٌ يَحْصُلُ في النَّفْسِ عَلى تَفْوِيتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ عَمَلُهُ في الماضِي، والنَّدَمُ مِن هَواجِسِ النَّفْسِ، فَهو أمْرٌ غَيْرُ ظاهِرٍ ولَكِنَّهُ كَثِيرٌ، أيْ يَصْدُرُ عَنْ صاحِبِهِ قَوْلٌ أوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإذا تَجَلَّدَ صاحِبُ النَّدَمِ فَلَمْ يُظْهِرْ قَوْلًا ولا فِعْلًا فَقَدْ أسَرَّ النَّدامَةَ، أيْ قَصَرَها عَلى سِرِّهِ فَلَمْ يُظْهِرْها بِإظْهارِ بَعْضِ آثارِها، وإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ مِن شِدَّةِ الهَوْلِ؛ فَإنَّما أسَرُّوا النَّدامَةَ لِأنَّهم دُهِشُوا لِرُؤْيَةِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فَلَمْ يُطِيقُوا صُراخًا ولا عَوِيلًا.
وجُمْلَةُ ﴿وقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ وأسَرُّوا مُسْتَأْنَفَةً.
ومَعْنى قُضِيَ بَيْنَهم قُضِيَ فِيهِمْ، أيْ قُضِيَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهم بِما يَسْتَحِقُّهُ بِالعَدْلِ، فالقَضاءُ بِالعَدْلِ وقَعَ فِيهِمْ، ولَيْسَ المَعْنى أنَّهُ قُضِيَ بَيْنَ كُلِّ واحِدٍ وآخَرَ لِأنَّ القَضاءَ هُنا لَيْسَ قَضاءَ نِزاعٍ ولَكِنَّهُ قَضاءُ زَجْرٍ وتَأْنِيبٍ، إذْ لَيْسَ الكَلامُ هُنا إلّا عَلى المُشْرِكِينَ وهم صِنْفٌ واحِدٌ، بِخِلافِ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَإذا جاءَ رَسُولُهم قُضِيَ بَيْنَهم بِالقِسْطِ﴾ [يونس: ٤٧] فَإنَّ ذَلِكَ قَضاءٌ بَيْنَ المُرْسَلِ إلَيْهِمْ وبَيْنَ الرُّسُلِ كَما قالَ - تَعالى: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وما كُنّا غائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٧]
وجُمْلَةُ ﴿وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ حالِيَّةٌ.