ملامح تربوية من قوله تعالى { إن الذين يضلون عن سبيل الله ... }
إن من أجَلِّ النِّعَم على الإنسان نعمة الهداية إلى الإسلام
{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
تمهيد:
إن الله تعالى لما خَلق الخَلق لم يَتْرُكْهم هملًا، بل أنزل لهم شريعةً واضحةَ المعالم لم تترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصتها، وصدق الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال ابن كثير رحمه الله: "هذه أكبر نِعَم الله عز وجل على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيِّهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحَلَّه، ولا حرام إلا ما حَرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه".
أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن الذين يميلون عن سبيل الله، وذلك الحقّ الذي شرعه لعباده، وأمرهم بالعمل به، فيجورون عنه في الدنيا، لهم في الآخرة يوم الحساب عذاب شديد على ضلالهم عن سبيل الله {بِمَا نَسُوا} أمر الله، يقول: بما تركوا القضاء بالعدل، والعمل بطاعة الله. {يَوْمَ الْحِسَابِ} من صلة العذاب الشديد".
قال سيد طنطاوي رحمه الله: "إن الذين يضلون عن دين الله وعن طريقه وشريعته، بسبب اتِّباعهم للهوى، لهم عذاب شديد لا يعلم مقداره إلا الله تعالى؛ لأنهم تركوا الاستعداد ليوم الحساب، وما فيه من ثواب وعقاب".
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:
أولًا: إن الله تعالى أقام الحجة على الناس بإرسال الرسل لهم ليبينوا لهم دين الله تعالى، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4]، فقد أوضح كل رسول لقومه دين الله الحق، ورسولنا الخاتم صلى الله عليه وسلم أدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وأرشد إلى سبيل الله الواجب اتِّباعه، وحذَّر من السُّبُلِ المتفرقة، كما جاء في الحديث الشريف: "خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه، ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السُّبُلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]" (أحمد، المسند، رقم:4142، النسائي، السنن الكبرى، رقم: 11174).
ثانيًا: إن من أجَلِّ النِّعَم على الإنسان نعمة الهداية إلى الإسلام؛ فهو صراط الله المستقيم، ومنهج الحياة القويم في كل شؤونها دِقِّها وجِلِّها؛ من سلكه وفق ما شرع الله تعالى، وفهم سلف الأمة الصالح رحمهم الله، فقد اتَّبع سبيل المؤمنين، ونال سعادة الدنيا والآخرة، ومن حاد عن سبيل المؤمنين، واتَّبَع سبيل المجرمين خاب وخسر في الدنيا والآخرة، وقد بيَّن القرآن الكريم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] قال ابن القيم رحمه الله: "فالعالمون بالله وكتابه ودينه عَرفوا سبيلَ المؤمنين معرفةً تفصيليةً، وسبيلَ المجرمين معرفةً تفصيليةً، فاستبانتْ لهم السبيلانِ كما يستبين للسالك الطريقُ الموصلُ إلى مقصوده، والطريقُ الموصلُ إلى الهلكة؛ فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم"؛ (الفوائد، ص: 157).
ثالثًا: إن الله تعالى عَدْلُه مطلق، وحِكْمَتُه بالغة، لا يظلم مثقال ذرة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وجعل لهم إرادة كاملة في اختيار الخير والشر، والتقدم والتأخُّر، قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج: 10]، ومن سعى للخير وتقدم إليه، ومن تأخَّر عنه، كل ذلك لا يخفى على الله منه شيء، قد أحاط الله بكل شيء علمًا، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 117]، قال سيد طنطاوي رحمه الله: "أي: إن ربك الذي لا تخفى عليه خافية هو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن طريق الحق، وهو أعلم منك ومن سائر الخلق أيضًا بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم، فعليك أيها العاقل أن تكون من فريق المهتدين لتسعد كما سعدوا، واحذر أن تركن إلى فريق الضالِّين، فتشقى كما شقوا".
رابعًا: من فضل الله تعالى على عباده وإحسانه أن من اتَّبَع سبيله؛ وجب له دعاء الملائكة بالمغفرة، واتقاء عذاب الجحيم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7] قال ابن عثيمين رحمه الله: " {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}؛ أي: طَريقك، وهو دِين الإسلام، سَواء كان إسلام محُمَّد صلى الله عليه وسلم، أو إسلام من قَبْله؛ لأن هذا الدُّعاءَ عامٌّ لكُلِّ المُؤمِنين"، وقال الطبري رحمه الله: وقوله: " {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}؛ أي: وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه، وذلك الدخول في الإسلام".
خامسًا: إن من أعظم نِعَم الله على العبد أن يهديه للإسلام، ويجعله على صراط مستقيم، لأن ذلك فضل وإحسان واصطفاء لا يناله كل أحد، قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، قال القاسمي رحمه الله: "أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته، وفَّقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته تركه على كفره؛ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]".
سادسًا: إن أعظم الضلال، وأشد الحرمان؛ الكفر بالله، والإشراك به سبحانه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: فقد سلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة، وفاتَتْه سعادة الدنيا والآخرة".
سابعًا: حذر القرآن الكريم من أسباب الضلال، ومن أهمها:
• الشيطان؛ العدو المتخصص في إضلال الناس وإغوائهم، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62].
• اتباع هوى النفس والاستجابة لها، جاء القرآن الكريم محذرًا منه، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
• سوء اختيار الأصحاب مهلكة في الدنيا والآخرة، نَبَّه القرآن الكريم لذلك، قال تعالى: {يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 28، 29].
• الانسياق وراء الأكثرية دون تبصُّر وإدراك، حذر القرآن الكريم منه، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116].
ثامنًا: من الحرمان وقلة التوفيق أن يُصاب الإنسان بالغفلة، وهذا والعياذ بالله حال أكثر الناس، قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 92]، وإن التمادي في الغفلة مُفْضٍ إلى الإعراض عن الله تعالى، وترك العمل بما شرعه سبحانه، وهو ما عَبَّرَ القرآن الكريم عنه بالنسيان في غير ما آية، ومنها قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]، قال السعدي رحمه الله: "هذا النسيان نسيان ترك، أي: بما أعرضتم عنه، وتركتم العمل له، وكأنكم غير قادمين عليه، ولا ملاقيه، {إِنَّا نَسِينَاكُمْ}؛ أي: تركناكم بالعذاب، جزاء من جنس عملكم، فكما نَسِيتُمْ نُسِيتُمْ".
أسأل الله أن يهدينا ويُسدِّدنا على لزوم صراطه المستقيم، ويُجنِّبنا الغفلة والغواية والضلال.
هذا ما تيسَّر إيراده، والله أسأل بمنِّه أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
______________________________________________
الكاتب: د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
- التصنيف:
عنان عوني العنزي
منذ