الرفق بالرعية من صفات الصالحين

منذ 2024-11-09

اتق الله فيمن تحتك وارفق بالرعية وإن كنت ضعيفاً عن تولي الأمانة فلا تستح من الاعتذار عنها اليوم فإنها يوم القيامة خزي وندامة.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

الولايات الكبرى كالرئاسة والإمارة والوزارة والولايات الصغرى كولاية الإدارات ووحدات العمل والدوائر الصغرى، ما هي إلا أمانة ثقيلة ومسؤولية أمام الله ثم أمام خلقه.

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: 

«قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قالَ: فَضَرَبَ بيَدِهِ علَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قالَ: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنَّهَا أَمَانَةُ، وإنَّهَا يَومَ القِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَن أَخَذَهَا بحَقِّهَا، وَأَدَّى الذي عليه فِيهَا» .

[الراوي : أبو ذر الغفاري | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1825 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] التخريج : أخرجه مسلم (1825)]

وقد جاء في شرح هذا الحديث: 

تَولِّي المرءِ للولاياتِ العامَّةِ مِن الأُمورِ الخطيرةِ الشَّأنِ؛ لِما فيها مِن المسؤوليَّةِ عن إقامةِ الحقِّ والعدْلِ بيْن النَّاسِ، ويَترتَّبُ على ذلك تَحمُّلُ الوالي تَبِعاتِ ذلك في الدُّنيا والآخرةِ، وهو ما يُعرِّضُه للخُسرانِ إنْ لم يَقُمْ بواجباتِ الولايةِ على وَجهِها بالعدْلِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ألَا تَسْتَعْمِلُنِي؟» أي: ألَا تَجْعَلُنِي عامِلًا وأميرًا على بَعِض الولاياتِ، فضرَب صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِيَدِه على مَنْكِبِه -وهو مُجتمَعُ رأْسِ العَضُدِ والكتِفِ لأنَّه يُعتمَدُ عليه-، وهو ضَرْبَ لُطفٍ وشَفَقَةٍ، ثُمَّ قال -ناصحًا له-: يا أبا ذَرٍّ، إنَّك ضَعِيفٌ، أي: عن تحمُّلِ مِثلِ هذا العَمَلِ، والظَّاهرُ أنَّه أراد ضَعْفَ الرَّأيِ والتَّدبيرِ، لا ضَعْفَ الجسمِ، أي: إنَّك لا تَستطيعُ أنْ تَتحمَّلَ أثقالَ الولايةِ وتَكاليفَها، وإنَّ الإمارةَ أمَانةٌ ممَّا ائتَمَنَ اللهُ تعالَى بها عِبادَه، فهي مَسْؤوليةٌ عُظمَى، ومُراعَاةُ هذه الأمانةِ -لِكَوْنِها ثقيلةً صعبةً- لا يَخرُج عن عُهدَتِها إلَّا كلُّ قَوِيٍّ، وإنَّ الإمارَةَ يومَ القيامةِ خِزْيٌ -أي: ذُلٌّ وهَوانٌ وحُزنٌ وأسَفٌ- ونَدَامَةٌ يَندَمُ بها، ويَتمنَّى أنْ لوْ لم يَتولَّها، والخِزْيُ والنَّدامةُ يكونانِ في حقِّ مَن لم يكُنْ أهلًا لها وضَعُفَ عن أداءِ حَقِّها ولم يَقُمْ لرَعيَّتِه بما أوجَبَه اللهُ عليه، فيُخزِيه اللهُ تعالَى يومَ القيامةِ ويَفضَحُه، ويَندَمُ على ما فرَّط، «إلَّا مَن أخَذها بحقِّها» وهو الحاكِمُ العادِلُ في رَعيَّتِه، الَّذي يُحافِظُ على حُقوقِهم، ويَرعى مَصالِحَهم، ويَحكُمُ فيهم بشَريعةِ اللهِ، ويَدخُلُ فيه كلُّ مَن وَليَ أمرًا مِن أُمورِ المسْلِمين، فهذا له فضلٌ عظيمٌ، تَظاهَرَتْ به الأحاديثُ الصحيحةُ، كحديث أبي هُرَيرةَ المتَّفَقِ عليه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ««سَبْعَةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه: الإمامُ العادلُ..»» .
وفي الحديثِ: النَّهيُ عن تولِّي الإمارةِ لِمَنْ يَعجِز عن القيامِ بِحُقوقِها وتَنفيذِ أُمورِها.
وفيه: حَضٌّ لِوَليِّ الأمرِ على القيامِ بحُقوقِ الرَّعيَّةِ. 

جزاء الرفق بالرعية والعكس:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

- «اللهُمَّ مَنْ ولِي من أمْرِ أُمَّتِي شيئًا فَشَقَّ عليهم فاشْقُقْ علَيهِ ، ومَنْ ولِيَ من أمرِ أُمَّتِي شيئًا فَرَفَقَ بِهمْ فارْفُقْ بِهِ»

الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم : 1312 | خلاصة حكم المحدث : صحيح | التخريج : أخرجه مسلم (1828) مطولاً

ومناسبة الحديث وشرحه:

 

وضَعَ الإسلامُ دُستورًا للرَّاعي مع الرَّعيَّةِ، أساسُه الرِّفقُ بهم، والعفوُ ورَفعُ المشقَّةِ عنهم، والتَّيسيرُ عليهم لِبُلوغِ مَصالِحِهم، وبيَّن أنَّ الحُكمَ والولايةَ مَسئوليَّةٌ تَقومُ على الجَدارةِ والكَفاءةِ مع العِلمِ والفِقهِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ شِمَاسَةَ أنَّه أتَى إلى أمِّ المؤمنينَ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عنها يَسأَلُها عن شَيءٍ مِن أُمورِ الدِّينِ، فسَألَتْه عن مَوطنِه وبَلدتِه أو عن قَبيلتِه، فأخبَرَها أنَّه رَجُلٌ مِن أهلِ مِصْرَ، فسَألتْه عائشةُ: كيفَ كان صاحِبُكم لكم؟ وأرادَتْ به مُعَاوِيَةَ بنَ حُدَيْجٍ أميرِ الجيشِ الَّذي كان فيه عبدُ الرَّحمنِ، وكان مُوَالِيًا لِمُعَاوِيَةَ بنِ أبي سُفْيَانَ رَضيَ اللهُ عنهما في فِتنتِه مع علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، «في غَزَاتِكُم هذه» أي: حَربِكم، وتَعني: غَزوةَ مِصرَ الَّتي قُتِل فيها محمَّدُ بنُ أبي بَكرٍ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ غَزوةَ المغربِ، فقال لها عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ شِمَاسَةَ: ما نَقَمْنا منه شيئًا، أي: ما كَرِهْنا منه ولا عِبْنا عليه شيئًا، وأخبَرَ أنَّ الرَّجلَ منهم إذا ماتَ جَمَلُه، يُعطِيه ذلكَ الأميرُ جمَلًا بَدَل الَّذي ماتَ، وإذا ماتَ للرَّجلِ منهم عبدُه، يُعطِيه ذلك الأميرُ عبْدًا آخَرَ بدَلَ الَّذي ماتَ منه، وإذا احْتَاج الواحدُ منهم إلى النَّفَقَةِ والقوتِ لنَفسِه أو أهلِه، يُعطِيه ذلكَ الأميرُ النَّفَقَةَ الَّتي يَحتاجُها، فهو بذلك راعٍ لرَعيَّتِه ومُيسِّرٌ لهم ويَقْضي حَوائجَهم.
فأخبَرَتْه عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّه لا يَمْنَعُها الفعلُ السَّيِّئُ الَّذِي فَعَله ذلكَ الأميرُ في أَخِيها مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنهما؛ وذلك أنَّ أخَاها مُحَمَّدًا كان والِيًا لِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ على مِصْرَ، فلمَّا انتَصَر جيشُ مُعَاوِيةَ قَتَله مُعاوِيَةُ بنُ حُدَيْجٍ، فهذا لا يَمْنَعُني أنْ أُخْبِرَك ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا يُوجِبُ مَدْحَ ذلك الأميرِ؛ فأخبَرَت أنَّها سَمِعَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقُولُ في بَيتِها: «اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أمرِ أُمَّتِي شيئًا» فجُعِل والِيًا عليها في أمرٍ مِنَ الأُمورِ، أو نوعًا من الوِلاية؛ فشَقَّ وشَدَّد عليهم، فاشْقُقْ عليه، واشْدُدْ عليه في أُمورِه، جَزاءً وِفاقًا، «ومَن وَلِيَ مِن أمرِ أُمَّتِي شيئًا فرَفَق بهم، فارْفُق به»، والرِّفْقُ: أن تَسِيرَ بالناسِ بِحَسَبِ أمرِ الله ورسولِه، فتَسلُكُ أقرَبَ الطُّرُقِ وأرفَقَها بالناسِ، ولا تَشُقُّ عليهم في شيءٍ ليس عليه أمرُ الله ورسولِه، وهذا دُعاءٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُيسِّرَ اللهُ أُمورَه ويُعامِلَه بالرِّفقِ والسُّهولةِ كما عامَلَ الرَّعيَّةَ بالرِّفقِ.
وفي الحديثِ: يَنبغِي أن يُذكَرَ فضلُ أهلِ الفضلِ، ولا يُمتَنَعُ منه بِسَبَبِ عَداوَةٍ ونحوِها.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرِّفْقَ بالناسِ، وعَدَمَ الإشقاقِ عليهم.
وفيه: التَّنبِيهُ لِوُلاةِ الأمورِ على السَّعْيِ في مصالِحِ الرَّعِيَّةِ، والجَهْدِ في دَفْعِ ضَرَرِهم وما يَشُقُّ عليهم من قولٍ أو فعلٍ، وعدمِ الغَفْلَةِ عن أحوالِهم.

رسالة إلى كل من تولى ولاية كبرى أو صغرى:

اتق الله فيمن تحتك وارفق بالرعية وإن كنت ضعيفاً عن تولي الأمانة فلا تستح من الاعتذار عنها اليوم فإنها يوم القيامة خزي وندامة.

وبشرى لكل راع رفيق: أبشر برفق الله بك كما رفقت برعيتك.

أبو الهيثم

----------------------------

(استفدت من تخريج الأحاديث وشرحها من الموسوعة الحديثية بموقع الدرر السنية)

 

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

  • 0
  • 0
  • 127
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    وَصفُ الجَنَّةِ 2 • فوا عجبا لها كيف نام طالبها؟! وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قرّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قرّت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟! - وإنْ سألتَ عن سَعَتِها: فأدنى أهلِها يسير في مُلكِه وسُرُرِه وقصورِه وبَساتينِه مسيرة ألفي عام - وإنْ سألتَ عن خيامها وقبابِها: فالخيمة الواحدة مِن دُرَّة مُجوَّفة طُولُها ستون مِيلًا من تلك الخيام - وإنْ سألتَ عن عَلاليها وجواسِقِها: فهي غُرَفٌ مِن فوقِها غُرَفٌ مَبنِيَّة تجري من تحتِها الأنهار - وإنْ سألتَ عن ارتفاعِها: فانْظُر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار - وإنْ سألتَ عن لِباس أهلِها: فهو الحرير والذهب - وإنْ سألتَ عن فُرُشِها: فبَطائنُها من إستبرَق مفروشة في أعلى الرتَب - وإنْ سألتَ عن أرائكِها: فهي الأسِرَّة عليها البَشخانات وهي الحجال مُزَرَّرة بأزرار الذهب فما لها من فروج ولا خِلال - وإنْ سألتَ عن وُجوه أهلِها وحُسْنِهم: فعَلى صورة القمر - وإنْ سألتَ عن أسنانِهم: فأبناءُ ثلاثة وثلاثين على صورة آدم - عليه السلام - أبي البَشَر - وإنْ سألتَ عن سَماعِهم: فغِناءُ أزواجِهم من الحُور العِين وأعلى منه سَماعُ أصوات الملائكة والنبيين وأعلى منهما سَماعُ خِطابِ ربِّ العالمين - وإنْ سألتَ عن حُلِيِّهم وشارتِهم: فأساوِر الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التِّيجان - وإنْ سألتَ عن غلمانِهم: فوِلْدانٌ مُخلَّدون، كأنهم لؤلؤٌ مكنون - وإنْ سألتَ عن عرائِسِهم وأزواجِهم: فهُنَّ الكواعب الأتراب اللاتي جَرى في أعضائِهن ماءُ الشباب - [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح] لابن القيم - رحمه الله - • إنفوغرافيك صحيفة النبأ العدد "458" الخميس 25 صفر 1446 هـ

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً