إجمال الطلب

منذ 2024-11-11

اليقينُ يهدي العبدَ إلى أعظمِ ما يَستجلِبُ به رزقَ ربِّه؛ وذلك بتوكُّلِه عليه في طلبِ رزقِه، كما قال النبيُّ ﷺ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ‌حَقَّ ‌تَوَكُّلِهِ؛ ‌لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»

الرزقُ قضيةٌ كبرى تَشغلُ همَّ البَشرِ، وحديثُهم أغلبُ ما يكونُ عنها، وتنازُعهم أكثرُ ما يكونُ فيها. وقد حَسَمَ اللهُ أمرَ أرزاقِ الخلائقِ بكفالتِه لهم حتى الدِّيدانِ في صُمِّ الصخورِ والحيتانِ في قاعِ البُحورِ إذ يقولُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].

وأبانَ لهم برحمتِه سبيلَ طلبِ الأرزاقِ التي مَن سارَ عليها؛ ظفرَ برزقِه المكتوبِ محفوظَ الدِّينِ والكرامةِ، ومَن تَنكَّبَه؛ باءَ بشؤمِ المخالفةِ، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما كُتبَ له.

هذا، وإنَّ من أعظمِ ما يُبَيِّنُ الطريقَ الشرعيَّ في طلبِ الأرزاقِ ما رواه ابنُ ماجه وصحَّحَه الألبانيُّ أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، ‌وَأَجْمِلُوا ‌فِي ‌الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ، ‌وَأَجْمِلُوا ‌فِي ‌الطَّلَبِ؛ خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ». إنّ الإجمالَ في طلبِ الرزقِ الذي أكَّدَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين كرَّرَه هو السبيلُ الشرعيُّ في طَلبِه: وَأَجْمِلُوا ‌فِي ‌الطَّلَبِ؛ طلبًا يَجملُ به الرزقُ ويَطيبُ، ويَجملُ به حالُ طالبِه.

وذلك الإجمالُ الجميلُ يقضي بأنْ يَنطلقَ المؤمنُ في طلبِ رزقِه من يقينٍ راسخٍ بأنّ رزقَه قد قدَّرَه اللهُ وكتبَه وهو في بطنِ أمِّه، وأنّه لن يموتَ حتى يَستوفيَه كاملًا، وأنّ أيَّ مخلوقٍ كائنًا من كان لن يستطيعَ أنْ يزيدَ عليه ذرةً، أو يَنقصَ منه، فضلًا عن أنْ يَمنعَه، وأنَّ لهذا الرزقِ ميعادًا قد حدَّدَه اللهُ؛ لا يتقدَّمُ عليه لحظةً، ولا يتأخَّرُ، وأنّ أهلَ الأرضِ قاطبةً عاجزون عن تقديمِ حينِه طرفةَ عينٍ أو تأخيرِه.

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرزقَ ‌لَيطْلُبُ ‌العبدَ أكثرَ مِمَّا يطلُبُه أجَلُه» رواه الطبرانيُّ وجوَّدَه المنذريُّ، ويقولُ: «لو فرَّ أحدُكم مِنْ رزقِه؛ أدْركَه كما يدْرِكُه الموتُ» (رواه الطبرانيُّ وحسَّنَه المنذريُّ والألبانيُّ).

قال عمرُ -رضيَ اللهُ عنه-: مَا مِنِ امْرِئٍ إِلا وَلَهُ أَثَرٌ هُوَ وَاطِؤهُ، وَرِزْقٌ هُوَ آكِلُهُ، وَأَجَلٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَحَتْفٌ هُوَ قَاتِلُهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلا هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ لاتَّبَعَهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَوْتَ مُدْرِكٌ مَنْ هَرَبَ مِنْهُ.

مَثَلُ ‌الرِّزقِ الَّذي تَطلُبُهُ   **   مَثَلُ الظِّلِ الَّذي ‌يَمشِي ‌مَعَك 

أَنْتَ لا تُدركُه متَّبِعًــــا   **   وَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبَعَــــــــــــكْ 

 

فإذا رَسَخَ هذا اليقينُ في قلبِ العبدِ؛ لم يكن مُعَوَّلُه في طلبِ الرزقِ إلا على الرزاقِ الذي عنده يُبتغى الرزقُ، كما قال الخليلُ -عليه السلامُ-: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17].

وذلك اليقينُ يهدي العبدَ إلى أعظمِ ما يَستجلِبُ به رزقَ ربِّه؛ وذلك بتوكُّلِه عليه في طلبِ رزقِه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ ‌حَقَّ ‌تَوَكُّلِهِ؛ ‌لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا» (رواه أحمدُ وصحَّحَه الحاكمُ وحسَّنَه البَغَويُّ).

وبذلك التوكلِ يَتبرَّؤ العبدُ مِن حَوْلِه وقوَّتِه، ويَنتزِعُ من قلبِه أيَّ تعلقٍ بغيرِ ربِّه الذي توكلَ عليه، وما أقربَ الرزقَ للعبدِ عند بلوغِه ذلك الحالَ! قيل للإمامِ أحمدَ: أيُّ شيءٍ صدقُ المتوكلِ على اللهِ -عزَّ وجلَّ-؟ قال: أنْ يتوكلَ على اللهِ، ولا يكونَ في قلبِه أحدٌ من الآدميينَ يَطمَعُ أنْ يَجيئَه بشيءٍ؛ فإذا كان كذلك كان اللهُ يرزقُه، وكان متوكِّلًا. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: تَوَكَّلْ على اللهِ؛ ‌تُسَقْ إِلَيْكَ الْأَرْزَاقُ بِلَا تَعَبٍ وَلَا تَكَلُّفٍ.

 

عبادَ اللهِ!

وإجمالُ الطلبِ يَحملُ العبدَ على طلبِ الرزقِ الحلالِ بالطريقِ الحلالِ وإنْ طالَ أمدُه. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْتَبْطِئُوا الرِّزْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَبْدٌ لِيَمُوتَ حَتَّى يَبْلُغَ آخِرَ رِزْقٍ هُوَ لَهُ، ‌فَأَجْمِلُوا ‌فِي ‌الطَّلَبِ؛ أَخْذُ الْحَلَالِ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ» (رواه الحاكمُ وصحَّحَه ووافقَه الذهبيُّ). وذلك الحلالُ مما وسّعَه اللهُ على عبادِه؛ فكان هو الأصلَ والغالبَ عند مَن عَمَرَ اليقينُ قلبَه، وكان التوكلُ قائدَه.

قال ابنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-:ما مِن مؤمنٍ ولا فاجرٍ إلا وقد كتبَ اللهُ -تعالى- له رزقَه من الحلالِ، فإنْ صَبَرَ حتى يأتيَه؛ آتاهُ اللهُ -تعالى-، وإنْ جَزِعَ، فتناولَ شيئًا من الحرامِ؛ ‌نَقَصَه ‌اللهُ من رزقِه الحلالِ. أوصى محمدُ بنُ سيرينَ ابنَه قائلًا: يَا بُنَيَّ، اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ رِزْقًا لَنْ تَعْدُوَهُ، فَاطْلُبْهُ مِنْ حِلِّهِ، فَإِنَّكَ إِنْ طَلَبْتَهُ مِنْ حِلِّهِ؛ رَزَقَكَ اللَّهُ طَيِّبًا، وَاسْتَعْمَلَكَ صَالِحًا.

 

أيها المسلمون!

وإجمالُ طلبِ الرزقِ المعمورُ باليقينِ وحُسنِ التوكلِ والاقتصارِ على الحلالِ يَحملُ على التُّؤَدةِ في مباشرةِ أسبابِ الرزقِ المباحةِ وطلبِها برِفْقٍ، وعزةِ نفسٍ، وعدمِ استشرافٍ وتلهفٍ وشراهةٍ وتهافتٍ وإذلالٍ وإخلالٍ بالمبادئِ والحقوقِ؛ إذ لا فائدةَ من الانهماكِ والمبالغةِ في أمرٍ قد قضاهُ اللهُ، ويَسَّرَ كلَّ مخلوقٍ لما خُلِقَ له، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أجمْلِوا في طلَبِ الدنيا؛ فإنَّ كلًا ‌مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له منها» (رواه ابنُ ماجه وصحَّحَه الحاكمُ والألبانيُّ).

ولعلَّ هذا من أسرارِ التعبيرِ بالمشيِ الواردِ في الأمرِ الربانيِّ بالسعيِ في أسبابِ الرزقِ؛ إذ فيه معنى الهدوءِ والتؤدةِ والرّزانةِ، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]. فإنْ تيسَّرَ بها رزقٌ؛ قَنِعَ به، وحَمِدَ اللهَ عليه، وسألَه من فضلِه، وإنْ لم يتيسرِ الرزقُ بها؛ ظلَّ صابرًا، متفائلًا، منتظرًا رزقَ ربِّه، دون حزنٍ، أو تحسَّرٍ، أو حسدٍ لذي نعمةٍ.

قال عمرُ بنُ الخطابِ -رضيَ اللهُ عنه-: اعلموا أنَّ بين العبدِ وبين ‌رزقِه ‌حجابًا، فإنْ صبرَ أتاه رزقُه، وإنِ اقتَحَم هَتَكَ الحجابَ، ولم يُدرِكْ فوقَ رزقِهِ.

وقال عليٌّ -رضيَ اللهُ عنه-: الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اللَّهِ ‌إِحْدَى ‌الْحُسَنْيَيْنِ؛ إِمَّا دَاعِي اللَّهِ، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-، فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ وَمَعَهُ حَسَبُهُ وَدِينُهُ.

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْحَرِيصُ الْجَاهِلُ، وَالْقَانِعُ الزَّاهِدُ كُلٌّ مُسْتَوْفٍ أَكْلَهُ مُسْتَوْفٍ رِزْقَهُ، فَعَلامَ التَّهَافُتُ فِي النَّارِ؟!.

وقال بعضُ السلفِ: اطْلُبُوا ‌الْحَوَائِجَ ‌بِعِزَّةِ الْأَنْفُسِ؛ فَإِنَّ الْأُمُورَ تَجْرِي بِالْمَقَادِيرِ. كان أبو عثمانَ الواعظُ يقولُ في مواعظِه: يا عبدَاللهِ، في ماذا ‌تُتْعِبُ ‌قلبَك؟ وتُنازِعُ إخوانَك، وتُعادي على طلبِ الرئاسةِ والعِزِّ أشكالَك وأخدانَك؟ وتعملُ في هلكةِ حسناتِك بالحسدِ لمن هو فوقَك؟ كأنّك لم تؤمنْ بمَن أَخبرَ أنّه يُعِزُّ مَن يشاءُ، ويُذِلُّ مَن يشاءُ، ويُؤتي الملكَ مَن يشاءُ، ويَنزِعُ المُلكَ ممّن يشاءُ، فاستعملِ العلمَ في ظاهرِك إنْ كنتَ تاجرًا أو كاسبًا أو زارعًا، وأجملْ في الطَّلبِ، واتركِ الحرامَ والشبهاتِ جميعًا، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستوفيَ رزقَها وحظَّها من عِزِِّها ورئاستِها ورزقِها، ولو هَرَبَ العبدُ من رزقِه لأدركَه رزقُه، كما لو فرَّ من الموتِ.

 

إنّ الإجمالَ في طلبِ الرزقِ النابعَ من اليقينِ وحُسنِ التوكلِ وطلبِ الحلالِ بأسبابِه المباحةِ بطمأنينةٍ وتُؤدةٍ نعيمٌ يَطِيبُ به الرزقُ، ويَحسنُ به العزاءُ والخَلَفُ؛ فبذلك الإجمالِ يُصانُ الدِّينُ، ويَزدادُ الإيمانُ، ويَحْسُنُ الخُلُقُ، وتَعْظُمُ السماحةُ، وتُحْفَظُ الكرامةُ والمروءةُ، وتُرعى الذِّمامُ والمبادئُ، ويكونُ الرضا والسرورُ والفأْلُ الدائمُ، وتَسكنُ الراحةُ القلبَ، وتَقَرُّ العينُ بالعطاءِ، وتَحُلُّ البركةُ في الأرزاقِ، ويكونُ حُسْنُ العِوَضِ عن كلِّ فائتٍ.

قال أبو سليمانَ الدَّارانيُّ: مَن وَثِقَ باللهِ في رزقِه؛ زاد في حُسنِ خُلُقِه، وأعقبَه الحِلْمَ، وسَخَتْ نفسُه في نفقتِه، وقلّتْ وساوسُه في صلاتِه.

وقال ابنُ القيمِ: جَمَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: «فاتَّقوا الله، وأجْمِلوا في الطَّلَبِ» بين ‌مصالحِ ‌الدُّنيا والآخرةِ؛ فنعيمُها ولَذَّتُها إنَّما يُنالُ بتقوى اللهِ. وراحةُ القلبِ والبدنِ وتركُ الاهتمامِ والحِرْصِ الشَّديدِ والتَّعَبِ والعَناءِ والكَدِّ والشَّقاءِ في طلبِ الدُّنيا إنَّما يُنالُ بالإجمالِ في الطَّلَبِ. فمنِ اتَّقى اللهَ؛ فازَ بلذَّةِ الآخرةِ ونعيمِها، ومَن أجْمَلَ في الطَّلَب؛ استراحَ من نَكَدِ الدُّنيا وهمومِها.

 

ذاكمْ -يا عبادَ اللهِ- فِقْهُ الإجمالِ في طلبِ الرزقِ، وما يؤولُ إليه من خيرِ العاقبةِ في الدنيا والآخرةِ. فإنْ حادَ العبدُ عن طريقِ الإجمالِ في طلبِ الرزقِ؛ تَنَكَّدَ عيشُه، وساءَ بربِّه ظَنُّه، ولم يأتِه من الرزقِ إلا ما كُتِبَ له. قال مُثَنَّى الْأَنْبَارِيُّ -وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ-: لا تَكُونُوا بِالْمَضْمُونِ مُهْتَمِّينَ؛ فَتَكُونُوا لِلضَّامِنِ ‌مُتَّهِمِينَ، وَبِرِزْقِهِ غَيْرَ رَاضِينَ.

أُقَلِّبُ ‌طَرْفِي مَرَّةً بَعْدَ مَـرَّةٍ   **   لِأَعْلَمَ مَا فِي النَّاسِ وَالْقَلْبُ يَنْقَلِـــــــــبْ 

فَلَمْ أَرَ حَظًّا كَالْقَنُوعِ لِأَهْلِهِ   **   وَأَنْ يُجْمِلَ الْإِنْسَانُ مَا عَاشَ فِي الطَّلَـبْ

  • 1
  • 0
  • 125
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    فتوحات جنود الخلافة في الولايات الليبيّة... إنّ مع العسر يُسراً • أثبتت تطورات الأوضاع في ليبيا، أن المشروع العالمي للدولة الإسلامية ليس قضية إعلامية تحاول الدولة الإسلامية من خلاله جذب المزيد من الانتباه كما يزعم قادة الفصائل والتنظيمات المنحرفة، وليس قضية لتجنيد المزيد من الأتباع، أو بحثا عن مزيد من الموارد كما يعتقد السياسيون والمحللون في الغرب الصليبي، وإنما هو تطبيق حقيقي لمفهوم الخلافة الراشدة التي أعادت الدولة الإسلامية إقامتها بعد قرون طويلة من إزالتها على أيدي الملوك والسلاطين. فالخلافة في مفهومها السياسي الشرعي تتضمن قيادة واحدة تجمع المسلمين كلهم تحت راية واحدة، ولذلك كان إجماع فقهاء الإسلام على عدم جواز وجود إمامين في وقت واحد إلا في ظروف قاهرة، وذلك حرصا على وحدتهم، ومخافة تفرقهم وتنازعهم مع تعدد أئمتهم. ففي الوقت الذي يحشد الصليبيون والرافضة أبصار العالم ليركزوها على أكاذيب انتصارهم النهائي في (الرمادي)، تتقدم قوة من جيش الخلافة على بعد آلاف الكيلومترات، لتسيطر على مدينة حيوية في شمال أفريقيا، وبالتحديد قرب الهلال النفطي الليبي المتموضع حول خليج (سرت) على شواطئ البحر المتوسط، فكان فتح مدينة (بن جواد)، واقتحام ميناء (السدرة النفطي)، وتهديد مدينة (رأس لانوف) الحيوية، إنذارا بالخطر للدول الصليبية التي تحاول صرف أنظار شعوبها عن تمدد الدولة الإسلامية في هذه البقعة الهامة من العالم بموقعها وثرواتها، خوفا من أن يعكر ذلك صفو احتفالاتهم بالانتصارات الزائفة لهم ولحلفائهم في العراق والشام. ومن جانب آخر فإن الدول الصليبية تعرف حقيقة واقع الدولة الإسلامية في ليبيا جيدا، وتعرف واقع أعدائها بدرجة أكبر، ففي الداخل الليبي كمّ كبير من الفصائل المتنافسة على الأموال والموارد، منقسمة إلى أكثر من معسكر، يتنازعون أكثر من حكومة، ويتقاتلون بعدة جيوش، ويتورط كل منهم في عدة عمليات عسكرية باهظة التكاليف، وقد فشلت كل المحاولات لجمعهم وتوحيدهم، فما يفرّق بينهم من المطامع أكثر مما يجمعهم، وما في يد كل منهم من الموارد ومصادر القوة يغنيه عن الاضطرار للاجتماع مع أعدائه، وفي ظل هذا الواقع تبقى الدولة الإسلامية هي القوة الوحيدة المجتمعة على قلب رجل واحد في وجه أعدائها، باتباعها أمر رجل واحد هو أمير المؤمنين تقبله الله. وإذا وسعنا الدائرة أكثر وجدنا أن محيط ليبيا القارّي يشمل مجموعة من الدول الهشة سياسيا كما في مصر والجزائر وتونس والسودان التي تحكمها حاليا أنظمة طاغوتية غير مستقرة، في حين أن بعضها الآخر ليس أكثر من أنظمة حكم بدائية كما هو الحال في تشاد ومالي، بالإضافة لذلك فإن هذه الدول المحيطة بولايات الدولة الإسلامية في ليبيا متورطة أصلا في حرب مفتوحة مع الدولة الإسلامية، فجيش الردة المصري منغمس حتى أذنيه في الحرب التي استنزفته في ولاية سيناء، كما أن المفارز الأمنية صعدت من عملياتها في قلب (القاهرة) عاصمة النظام الطاغوتي وفي ضواحيها، في حين ظهرت بوادر لنشاط سرايا من جيش الخلافة في الصحراء الغربية من مصر، أما تشاد ومالي فهما متورطتان في حرب شرسة مع جنود الخلافة في كل من الصحراء وولاية غرب إفريقية، تزيد من إضعاف قدرتيهما على الدخول في حرب إضافية على حدودهما الشمالية، أما الجزائر وتونس، فإن العمليات فيهما قد بدأت، وخاصة في تونس حيث العمليات الأمنية القوية للمفارز الأمنية عصفت ببنية اقتصاد حكومة الطاغوت فيها، كما ظهر -بفضل الله- أول الغيث في مناطق من شرق ولاية الجزائر بإطلاق جنود الخلافة فيها لعملياتهم ضد جيش الردة. إن معرفة الصليبيين بهذا الواقع جيدا دفعتهم إلى المسارعة بإعلان العزم على تشكيل حلف عسكري دولي جديد لقتال الدولة الإسلامية في الولايات الليبية، في نفس الوقت الذي يجتهدون فيه لجمع الفصائل في ليبيا في إطار حكومة "وحدة وطنية" ستكون مهمتها الأولى قتال الدولة الإسلامية. إن فتح هذه الجبهة الجديدة على الصليبيين وأعوانهم المرتدين، سيعني -بإذن الله- مزيدا من التشتت بالنسبة لقواتهم، وفي الوقت نفسه سيزيد من مساهمة المسلمين في حربهم، حيث باتت ولايات الدولة الإسلامية في ليبيا مهاجر المجاهدين ممن سدت في وجوههم طرق الهجرة إلى العراق والشام، وخاصة من مصر والسودان والمغرب ودول الصحراء وأوروبا، وصدق الله عز وجل الذي قال في كتابه (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا). ▪︎ صحيفة النبأ – العدد 13 السنة السابعة - الثلاثاء 1 ربيع الآخر 1437 هـ المقال الافتتاحي: فتوحات جنود الخلافة في الولايات الليبيّة... إنّ مع العسر يُسراً

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً