كيف تستثمر لآخرتك؟

منذ 2024-11-15

حريٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لما بعد موته، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازى عليها

معاشر المؤمنين، كيف نستثمر لآخرتنا؟ فإنه حريٌّ بالمسلم أن يعمل لآخرته، وأن يترك آثارًا حسنة لما بعد موته، فالآخرة خيرٌ وأبقى، ولأن آثار الإنسان تبقى بعده ويُجازى عليها؛ قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].

 

{وَآثَارَهُمْ}: هي آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها في حياتهم وبعد وفاتهم، من الأعمال والأقوال والأحوال، فكيف تترك لك يا عبد الله أثرًا حسنًا بعد موتك؟

 

اعلم- أثابك الله- أن من تلك الآثار التي تبقَى للمرء بعد موته السُّنَنَ الحسنةَ التي يبادر إليها المسلم ويتحقق بها النفع للمسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ»؛ (صحيح ابن ماجه).

 

فليتفكَّر أولئك الذين يتصدرون مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام وريادة المجتمعات في هذا الحديث، فمن عمل حسنةً فلنفسه ومن أساء فعليها، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيد.

 

ومن الآثار الحسنة بعد الممات، عباد الله، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه: عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه، يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ»؛ (ابن ماجه - حسن).

 

قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 - 18].

 

ومن الأثر الحسن: غرسُ الغرس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلِمٍ يغرسُ غَرْسًا، أو يزرعُ زرعًا، فيأْكُلُ منْهُ طيرٌ أو إنسانٌ أو بَهيمةٌ إلَّا كانَ لَهُ بِهِ صدقةٌ» .

 

فهنيئًا لمن سبقوا بتلك الفضائل:

من شيَّدوا المساجد، وبنوا المدارس والمعاهد، ومن صنفوا العلوم النافعة، وشيَّدوا المواقع التقنية المفيدة، ومن حفروا الآبار، وشقوا القنوات والأنهار، ومن فتحوا البلدان والأمصار، فدخلت شعوبٌ الإسلام، ومنهم من فتحوا بلدانًا كانت عواصم للنصرانية والكفر فأصبحت عواصم للإسلام وللأمة، كما يسَّر الله للسلطان العثماني محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عاصمة المسيحية الشرقية لتصبح عاصمة الخلافة الإسلامية، تحقيقًا لبشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَتُفتَحنَّ القُسطنطينيةُ، ولنِعمَ الأميرُ أميرُها، ولنعم الجيشُ ذلك الجيشُ»؛ (البخاري في التاريخ، والطبراني، وصححه الذهبي).

 

ومن الآثار الطيبةِ الحسنةِ: النصحُ الأمين لوزراء الصدق في هذه الأمة للحكَّام، ومن أعظمهم أثرًا الوزيرُ الناصحُ الصالح: رجاء بن حيوة رحمه الله، وذلك عندما اقترب أجلُ الخليفةِ سليمان بن عبدالملك، فاستشار رجاءً: من يولي بعده؟ فأشار عليه بعمر بن عبدالعزيز، وكانت مشورة خيرٍ ونصح؛ فقد كانت خلافة راشدة كخلافة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، عمَّ فيها العدل وكُبت الظلم، وانتشر خلالها الأمن، وتنزَّلت البركات، وكانت فترة مضيئةً في تاريخ الأمة، فسنَّ رجاءٌ في هذا النصح بابًا للوزراء والمستشارين ليتركوا بعدهم أثرًا حسنًا تتعاظم به أجورهم.

 

ولم تقتصر تلك الآثار الحسنة، عباد الله، على القادة والأمراء والوزراء؛ بل كان للتجار المسلمين آثارٌ جليلةٌ عظيمةٌ في دخول شعوبٍ عديدة في الإسلام؛ لِما رأوا من أمانتهم وطيب أخلاقهم؛ كأندونيسيا التي تضم اليوم أكبر الشعوب المسلمة، فلكم عباد الله أن تتأملوا كم نال أولئك التجار المسلمون من الأجور والثواب طوال قرون تَتْرى إلى يومنا هذا.

 

ولم تقتصر الآثارُ الحسنةُ على ذوي المال والقيادة والقوة، بل ترك أناس من عامة المسلمين آثارًا جليلةً بتمسُّكهم بدينهم وطيب أخلاقهم، حين أسلم على أيديهم ساسةٌ وعلماءُ وأدباء من الشرق والغرب، فانقلبوا، بفضل الله ثم بمعاشرة أولئك، إلى دعاةٍ ينافحون عن الإسلام، ويدعون إليه.

 

معاشر المؤمنين، ومن الآثار الحسنة: الأوقاف التي سَنَّها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وتسابق الصحابة الكرام إليها، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان قد أصابَ أرْضًا بخَيْبَرَ، فأتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فيها، فقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْتُ أرْضًا بخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مالًا قَطُّ أنْفَسَ عِندِي منه، فَما تَأْمُرُ بهِ؟ قالَ: «إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها، وتَصَدَّقْتَ بها»، قالَ: فَتَصَدَّقَ بها عُمَرُ، أنَّه لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، وتَصَدَّقَ بها في الفُقَراءِ، وفي القُرْبَى، وفي الرِّقابِ، وفي سَبيلِ اللَّهِ، وابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ، لا جُناحَ علَى مَن ولِيَها أنْ يَأْكُلَ مِنْها بالمَعروفِ، ويُطْعَمَ غيرَ مُتَمَوِّلٍ.

 

ومنها أوقاف عثمان بن عفان رضي الله عنه التي ما زال ريعُها إلى اليوم في المدينة المنورة.

 

أما أوَّلُ من أوقف فهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذي أوقف بساتين مخيريق اليهودي الذي أسلم وكان عالمًا من علماء اليهود، صدَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم حتى إذا كانت غزوة أُحُد، أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وكان قد أوصى إن قُتل فأمواله للنبي صلى الله عليه وسلم يتصرف فيها بما أراه الله، فقاتل مع المسلمين حتى قُتِل، فآلت أمواله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سبعَ حوائط - أي بساتين - فجعلها صدقة، قال السهيلي: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق وكانت سبع حوائط، أوقافًا بالمدينة لله.

 

وما زالت تلك البساتين تُنتج ثمارها إلى اليوم، إيذانًا باستدامةِ الخير والثواب لصاحبها.

 

وصدق الشاعر حين قال:

دقَّاتُ قلبِ المرء قائلة لــــــــــه   **   إن الحياة دقائق وثوانـي 

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها   **   فالذكر للإنسان عمر ثانـي 

________________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي

  • 3
  • 0
  • 238
  • عبد الرحمن محمد

      منذ
    دروس العراق والشام في الولايات الليبية وخراسان • بعد انطلاق الجهاد في الشام حاول بعض المنحرفين أن يسوّقوا انحرافاتهم تحت عنوان مخادع هو «عدم تكرار أخطاء العراق»، زاعمين أن إعلان الدولة الإسلامية كان فيه خطأ كبير، وأن الشام تختلف في واقعها عن العراق، وبالتالي لا يمكن أن تتكرر فيها الأحداث التي جرت في العراق، من صحوات وانحرافات وما شابه. ثم مرت السنون لتثبت أن الدولة الإسلامية لم تخطئ بإعلانها في العراق أولا، ثم امتدادها إلى الشام ثانيا، فهي بذلك قد أقامت الواجب الشرعي، وحفظت الجهاد من أن يقطف ثمرته الانتهازيون من مشركي الديموقراطية، ومرتدي الفصائل العميلة، وأن ما جرى في العراق من أحداث تكرر في الشام، وإن كان ثمة اختلاف بسيط في المظهر تفرضه طبائع المعركتين. فقد كان من ثمرات دروس العراق، التي كلفت الدولة الإسلامية سنوات من القتال مع الصحوات والرافضة، أن تمكنت -بفضل الله- من حسم معركة صحوات الشام خلال شهور قليلة، وهيأت نفسها فورا لاستقبال الحملة الصليبية التي كان قدومها مؤكدا بعد فشل الصحوات، ومع إعلان الخلافة وامتداد الدولة الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها، كان لابد أن يضع جنودها دروس العراق والشام نصب أعينهم وهم ينطلقون في جهادهم لأعداء الله، فيجعلون التوحيد أصلا لكل أعمالهم، وجهاد الكفار والمنافقين منهجا لحياتهم، وتحكيم شرع الله في أرضه غاية عظمى لا يمكن التنازل عنها في حال من الأحوال، فَوَقاهم الله بذلك مسايرة الفصائل في انحرافاتها، والوقوع ضحية لغدر الكفار والمرتدين ما تمسكوا بهذه الثوابت، كما أن الصليبيين الذين يديرون المعركة ضد الدولة الإسلامية ينقلون تجاربهم من ساحة إلى أخرى في حربهم عليها. فبعد الخسائر الكبيرة التي دفعوها ثمنا لتدخلهم المباشر في العراق، ونجاح مشروع الصحوات في إضعاف دولة العراق الإسلامية، حاولوا تكرار التجربة في الشام، لكن الدولة الإسلامية نجحت في العراق والشام -بفضل الله- في إفشال مشروع الصحوات باكرا بما امتلكته من خبرات وبما تعلمته من عِبَر في العراق، وبعدما حققت لهم تجربة الدعم الجوي للمرتدين العاملين على الأرض من الرافضة وعلمانيي الكرد بعض النجاح في الحرب على الدولة الإسلامية في ولايات العراق والشام، انطلقوا يعملون على تعميم التجربة في ساحات أخرى للقتال ضدها. فأعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها خطة حربهم على جنود الخلافة في ولاية خراسان، بتقديم الدعم المادي والغطاء الجوي لمرتدي الجيش الأفغاني، وسارعوا إلى إطلاق مشروع مشابه في الولايات الليبية، وذلك بسبب تمكن الدولة الإسلامية هناك -بفضل الله- من تجاوز مرحلة الصحوات، فأعلن الطاغوت (خليفة حفتر) قرين الهالك القذافي، عن حملة عسكرية كبيرة ضد جنود الدولة الإسلامية في الولايات الليبية، وذلك بدعم مباشر من الصليبيين في أمريكا وأوروبا، وتمويل من طواغيت الدول العربية، وبمشاركة كبيرة لكتائب من جيش الهالك القذافي الذي أعيد بناؤه لمثل هذه المهمة. إن تورط الولايات المتحدة وحلفائها من الصليبيين والطواغيت في ساحة قتال جديدة ضد الدولة الإسلامية، سيؤدي -بإذن الله- إلى المزيد من تشتيت جهدها وقواتها، وإلى تحميلهم المزيد من الأعباء المالية، التي يحاولون قدر استطاعتهم التخفيف منها في ظل الأزمات الاقتصادية الراهنة، وفي النهاية لن يحقق لهم الاستثمار في هذه المشاريع أي عائد يذكر، وسيتحقق فيهم قول الله عز وجل: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ). إن دولة الخلافة قد استفادت -بفضل الله- من دروسها وتجاربها، فعضت بالنواجذ على شرع ربها، وعلمت أن التقوى والصبر هما عماد مقاومة مكر وكيد الكافرين، وأن إقامة الدين كاملا غير منقوص هو أقوى الحصون في وجه هجماتهم وغاراتهم، وأن الدولة الإسلامية باقية ببقاء الدين الذي قامت عليه، والذي تكفّل الله -عز وجل- بحفظه، وأنه لن ينقص منها إلا بمقدار ما ينقص من هذا الدين في بنيانها. كما علمتها التجارب السالفة أن أي مشروع معادٍ قد يؤخر مسيرة الخلافة الإسلامية قليلا ولكن لن يوقفها بإذن الله، وأن تكرار الأعداء تجاربهم يقلل من تأثيرها على هذه المسيرة، وأن الفترة اللازمة للقضاء على المشاريع المعادية تنخفض، وتكاليفه تقل كلما كانت التجربة أكثر تكرارا. وعلى أعدائها أيضا أن يتّعظوا من تجاربهم، ويتذكروا أن الفشل الذي لازمهم في تجاربهم الماضية، لن يفارقهم -بإذن الله- في تجاربهم الباقية، والعاقبة للمتقين. ■ المصدر: صحيفة النبأ - العدد 20 السنة السابعة - الثلاثاء 21 جمادى الأول 1437 هـ المقال الافتتاحي: دروس العراق والشام في الولايات الليبية وخراسان

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً