وما توفيقي إلا بالله

ما أعظم أن يسير المرء في طريق الخير، ويستقيم عليه، وترعاه عناية الله في كل وقت، وهذه نعمة من النعم العظيمة التي يمتنُّ الله بها على من يشاء من عباده، إنها نعمة التوفيق.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

أيها المؤمنون، ما أعظم أن يسير المرء في طريق الخير، ويستقيم عليه، وترعاه عناية الله في كل وقت، وهذه نعمة من النعم العظيمة التي يمتنُّ الله بها على من يشاء من عباده، إنها نعمة التوفيق.

 

التّوفيق هو: الإلهام للخَيْر، يقال: وَفَّقهُ اللهُ؛ أي: ألهمه إيَّاه وسدَّد خُطاه، وأنْجَحه فيما سعى إليه، أَمَّا الخذلان فمعناه: تَرْكُ الْعَوْنِ، يقال: خذَله اللهُ؛ أي: تخلَّى عن نصرته وإعانته، والتوفيق معناه: أن يهيئ الله للعبد الأسباب لعمل الصالحات والمداومة عليها، وأن يرغبه فيها، ويبعده عمَّا حرم الله، ويجعل سعيه دائمًا في مرضاته، وإن أخطأ أو قصر في أمر ما، فتح له باب التوبة والاستغفار والانابة، وألَّا يكله إلى نفسه، وذلك هو التوفيق.

 

قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: "أجمعوا على أن التوفيق ألا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يُخلِّي بينك وبين نفسك، فإذا كان كل خير فأصله التوفيق، وهو بيد الله لا بيد العبد، فمِفْتاحه الدعاء والافتقار، وصدق اللَّجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتى أعطي العبد هذا المفتاح، فقد أراد الله أن يفتح له، ومتى أضله عن المفتاح، بقي باب الخير مُرتجًا دونه".

 

قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]؛ أي: لولا توفيقي لكم، لما أذعنت نفوسكم للإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولكني حبَّبْته إليكم، وزيَّنْته في قلوبكم، وكرَّهت إليكم ضده؛ الكفر والفسوق، وتوفيق الله -عز وجل- للعبد لا غنى للعبد عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال ربنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].

 

معاشر المسلمين، إن نعمة التوفيق لا تنال إلا بأسباب، من ذلك، ذُلُّ العبد وانكساره، وخضوعه لله، وإقراره بعجزه وضعفه، فيقر العبد في كل ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الباطنة والظاهرة بافتقاره التام إلى ربِّه ووليِّه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهُدَاهُ وسعادته، وهذه الحال التي تَحْصُلُ لقلبه لا تَنَالُ الْعِبَارَةُ حقيقتها، وإنما تُدْرَكُ بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرَةٌ خاصة لا يشبهها شيء، فما أقرب الْجَبْرَ من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وَذَرَّةٌ مِنْ هذا وَنَفَسٌ مِنْهُ أحَبُّ إلى الله من طاعات أمثال الجبال مِنَ الْمُدِلِّينَ الْمُعْجَبِينَ بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم؛ (مدارج السالكين لابن القيم).

 

ومنها النية الصالحة: فعلى قدر نية العَبْد وهمته وَمرَاده ورغبته يكون توفيقه سُبْحَانَهُ وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على الْعباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عَلَيْهِم على حسب ذلك، فَالله سبحانه أحكم الْحَاكِمين وأعلم العالمين، يضع التَّوْفِيق في مواضعه اللائقة بِهِ، والخذلان في مواضعه اللائقة به؛ (الفوائد لابن القيم).

 

إن من أعظم أسباب توفيق الله تعالى للعبد الدعاء وسؤال الله تعالى نعمة التوفيق والهداية، والافتقار والتضرع بين يدي الله -عز وجل- وهو أعظم ما يستجلب به التوفيق بل هو لُبُّ العبودية لله سبحانه، فإن حقيقة العبودية كمال الحب مع كمال الذل لله -عز وجل-، فاحرص على ألَّا يمُرُّ عليك يوم إلا وقد سألت الله تعالى أن يهديك، وأن يوفقك لما يحب ويرضى. وإن من أسباب حرمان نعمة التوفيق الإهمال وإبقاء النفس على ما خلقت عليه من الجهل والظلم، فإن الإنسان خلق ظلومًا جهولًا، فمن أهمل إصلاح نفسه أوردته المهالك، وحرم نعمة التوفيق، وأما من يريد أن ينال نعمة التوفيق فعليه أن يجاهد نفسه على استقامتها على طاعة الله، فإذا جاهد نفسه على ذلك رُزِق نعمة التوفيق والهداية، كما قال ربنا سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

 

فانظر كيف أن الله تعالى جعل الهداية ثمرة للمجاهدة، بعض الناس عندما يؤمر بخير يقول: ادع الله أن يهديني، فنقول: جاهد نفسك على فعل أسباب الخير تجد الهداية من الله سبحانه، فإن الهداية ثمرة من ثمرات مجاهدة النفس {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فمن أراد أن يُرزق الهداية فليجاهد نفسه على الطاعة وعلى الاستقامة على طريق الخير والصلاح، فإن الله -عز وجل- بمنِّه وفضله يرزقه نعمة التوفيق والهداية.

 

عباد الله، ومن تأمَّل كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وتدبَّرهما حقَّ التدبُّر يجد أن علامات توفيق الله للعبد كثيرة؛ منها:

التوفيق للعمل الصالح: العمل الصالح عمومًا على اختلاف أنواعه بدنيًّا أو ماليًّا أو قوليًّا، والله عز وجل بيَّن أن الطاعة والتوفيق لها هو الفوز العظيم، فقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]، وجاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله»، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعملٍ صالح قبل موته». وجاء أيضًا في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم عن أبي بكرة أن رجلًا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» قيل: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله».

 

ومنها: الإخلاص وصدق النية وصلاحها: قال عز وجل: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، فالموفق هو ذاك المخلص الذي أخلصه الله إليه، فصدق مع ربه، يريد مرضاته، مكتفيًا باطلاع الله عليه، فلا يلتفت إلى المخلوقين ليُعرِّض بنفسه أو بكلامه أو لحظات طرفه أمامهم ليمدحوه أو ينال إعجابهم، فهو يحذر من الرياء والسمعة والعجب والإدلال بالعمل وغيرها من مفسدات الأعمال وموهنات القلوب.

 

الإخلاص هو سر التوفيق، وهو بوابة حيازة الخيرات والقربات وقبولها من الله الذي يحب المخلصين الذين باعوا أنفسهم وأوقاتهم، وكل ما يملكون لربهم، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11].

 

ومنها: التوكُّل على الله والإنابة إليه: قال الله تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فالتوفيق منزلة عظيمة يهبها الله لمن أحب من عباده، فإذا علم الله من عبده الصدق والإنابة إليه وفَّقه الله وهداه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، وإذا وفق الله العبد اجتباه ويسَّر له أبواب الخير يضرب بسهم في كل باب، توَّاقًا منهومًا مستسهلًا للصعاب، طارحًا للعقبات.

 

ومن هذه العلامات إرادة الآخرة: الموفق هو من صرف الله قلبه عن التعلُّق بالدنيا، والطمع في جمعها، والظفر بزينتها وشهواتها، وأنزل الله بقلبه همَّ الآخرة، يعد أيامه وأنفاسه يريد ألا ينفقها إلا فيما يرضي الله والهاتف دائمًا في قلبه: الرحيل.. الرحيل، وهذا بخلاف المغبون الذي صرفته دنياه عن آخرته. يقول صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له»؛ (صحيح الجامع /6561).

 

عباد الله، ومن علامات توفيق الله للعبد، التوبة من المعاصي: من علامات التوفيق أن يوفق العبد للتوبة من الوقوع في المعاصي حتى لو تكرَّرت منه، أو يحال بينه وبين المعاصي فلا يستطيع أن يصل إليها، قال جل وعلا: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].

 

ومنها: حب الطاعة وكره المعصية، الموفق يفرح بطاعة الله وذكره وشكره، ويحب عمل الخير والصلاح؛ بل يجد فيه متعته وراحته، كان أبو سليمان الداراني رحمه الله يقول: «أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا».

 

ومنها: استثمار مواسم الطاعات واستغلال الفرص، والتنافس على فعل الخيرات واجتناب المنكرات.

 

ومن هذه العلامات الدالة على توفيق الله للعبد أن يوفَّق العبد لطلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله، ومن سلك طريقَ العلم فإنه على خيرٍ كثير، فقد جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين».

 

ومنها: التوفيق لنشر الخير والدعوة إلى الله وإصلاح الناس: فإنها مهمة الأنبياء والرسل، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وإن من توفيق الله للمسلم أن يجعله داعيةً للخير ونشر العلم.

 

ومنها: نفع الناس وقضاء حوائجهم: ومن علامات التوفيق أن يوفَّق العبد لنفع الناس وقضاء حوائجهم كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحَبُّ الناس إلى الله أنفعُهم».

 

الموفق هو ذلكم المحسن للآخرين العطوف عليهم الذي يقلقه شجون المصابين وأنَّات المساكين والمشردين والمحرومين والمظلومين، فهو يسعى بكل سبيل ليكفكف عبراتهم، ويُضمِّد جراحهم، ويمسح على رؤوسهم ليرد إليهم اعتبارهم، وينفي كربهم، ويدخل السرور عليهم يوم نسيهم الكثير وانشغلوا بأنفسهم وشهواتهم وكماليات حياتهم.

 

 

أيها المؤمنون، ومن علامات توفيق الله للعبد قبوله أوامر الله، ورضاه بذلك، وعدم معارضتها بالآراء والأهواء، وهذا بخلاف المنافقين في قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48 - 50].

 

ومن توفيق الله للعبد: أن يرزقه الله القناعة بما قسم له، والرضا بذلك، وعدم التطلع لما بأيدي الناس: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه»؛ (مسلم)، فمن قنعه الله بما أعطاه، ورزقه القناعة، وسلوك الطريق السوي، فإنه يعيش سعيدًا مطمئنًّا، ينظر إلى من أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو أعلى منه، ويعلم أن الله حكيم عليم، فيما قسم بين عباده، يغني هذا ويفقر هذا، وله الحكمة البالغة.

 

فاحرصوا - رحمكم الله - على بذل الأسباب الموصلة إلى توفيق الله، واستمطروا توفيق الله بحسن العمل والدعاء وحسن الظن به سبحانه، فإنها من أعظم النعم.

______________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري